[sam_zone id=1]

دمشق: آمنة ملحم|

في زمن الحرب الهستيرية التي طالت السوريين في بلد لطالما زنره الأمان، ربما يصبح الإيثار لأقصى الحدود ضربا من الجنون. ولكن ماذا لو وُجد نموذج الرجل النبيل المتفاني حقا ازاء محنات الغير؟ ماذا لو زُرع في درب من لا سند له؟ هل سيدخل المجهول ويتحدى الموت لينتشل غيره منه؟

انه نموذج قد يبدو بعيدا عن واقع سبع سنوات ونيف ابتلعت خلالها سيول الحرب الكثير من القيم، ولكنه عاد ليطفو على السطح مع فيلم “عزف منفرد”، تأليف واخراج عبد اللطيف عبد الحميد، الذي قدم في عرض خاص في سينما “سيتي”، مثيراً في ختامه نقاشا عم الصالة حول وجود أشخاص من هذا القبيل في حياة الحرب، أم أنهم هبطوا من المدينة الفاضلة على شاشة السينما؟

ربما هو نقاش مشروع بين من عاش الحرب بشرورها، لدرجة بات معها الخير المطلق صعب الالتماس، وكأنه ظل يتطاير مع أية فسحة قد تطاله من النور، ولكن حدوتة الفيلم بدت وكأنها مزيج من الواقع والتمني، لتأتي كتكريس لفكرة ان السينما ليست بالضرورة نقل آلي للواقع، بل هي انعكاس لوجهة نظر صانعها الذي اتجه هنا لفتح باب الأمل في وجه الاستسلام لليأس والإحباط، مصرا على أن الانسان السوري مهما ألمت به نوائب الحياة، يبقى ذلك الاصيل النبيل.

حكاية “عزف منفرد” انطلقت من صدفة جمعت بين طلال الرجل الاصيل والشهم (فادي صبيح)، والعم ابراهيم (جرجس جبارة) الذي حرمه القدر من الانجاب، ومن ثم حرمته الحرب من أملاك قضى حياته في جمعها، ليجد نفسه حافي القدمين في مواجهة محنة مرضية ألمت به. ولكن القدر ذاته يجمعه بطلال الذي يبدو وكأنه حارس لروحه تزرعه الحياة بدربه، ليختار اكمال الدرب معه، مهما كان المصير ، من دون التفكير بأي مقابل.

حالة الانسانية العالية التي يحيطها طلال بالعم ابراهيم لن تبدو مستهجنة مع التعرف على ملامح حياة طلال، عازف الكونترباص الذي قذفت به الحرب بعيدا عن الفرقة الموسيقية التي كان ينتمي لها، ليصبح عازفا في أحد المطاعم، فهو فنان مرهف الاحساس يحافظ على زواجه من سوسن (رنا شميس) رفيقة دربه، ولكن طبيعته الخاصة ستجعل للقاء حبيبته السابقة عازفة الكمان رنا (امل عرفة) وقع خاص لديه.

هنا شكّل صبيح في الفيلم ثنائيتين وليست واحدة، تارة مع الفنانة رنا شميس، وتارة مع الفنانة أمل عرفة لنراهم في عدد من المشاهد كثلاثية تقبض على تفاصيل الظهور بإحكام، كل من مكانه، وفي حالة من التنازع بين “سوسن” و”رنا” للنيل من قلب طلال، في جو اكتسى بالطرافة التي تسرق ضحكة الحضور رغم ألم الموقف. وعموما لم تكن الطرافة حالة عابرة في الفيلم ككل، بل استحوذت على عدد كبير من مشاهده، لتمر خفيفة الظل بين أبطاله الثلاثة، وكذلك الحال مع صديق طلال (كرم الشعراني)، وصاحب المطعم الذي يعمل فيه طلال (عبد الرحمن قويدر). فكل منهم ألم بخيوط الدور الموكل اليه في هذا الاطار. وهذه الحالة ليست غريبة على أفلام عبد الحميد، بل تكاد تكون سمة أساسية فيها، حيث الألم والبسمة رفيقين في الدرب ذاته.

وكما كانت الرسالة الانسانية عمودا أساسيا في الحكاية، التي خلصت إلى أن الوفاء لا يرد إلا بالوفا، كان لحياة الجيل الجديد في عمر المراهقة حيز من الحدوتة، عبر نموذج ابن طلال وسوسن مع ظهور اول للشاب “ورد عجيب” المتمرد على نبل وشهامة أبيه، وكذلك على الحياة، وهذه ليست المرة الاولى التي يفسح فيها المخرج عبد الحميد المجال لطرح هذه النماذج، فقد سبق وطرق بابها في فيلم “طريق النحل”، ولكن من منظور آخر يتناسب مع الإطار العام للحكاية.

حملت الصورة في الفيلم تنقلا بين الدمار والمناطق التي تعيش هدوءا نسبيا، بين الفرح والحزن عبر نماذج لنساء تقلهن رنا بسيارتها التي امتهنت بحكم الحرب مهنة سائقة تاكسي خاص للنساء، لتكون الرمزية هنا حاضرة في الفيلم، حيث يعيش السوريون لحظات فرح وألم تمر هنا وهناك في الوقت ذاته، وعلى المركبة ذاتها.

ورغم أن الفيلم يحمل عنوان “عزف منفرد”، إلا أن شخوصه قدمت عزفا جماعيا على أوتار الأداء المتمكن، فلم نكن أمام بطل أوحد تدور حوله الأحداث، بل البطولة جماعية دون استثناء. فقد شكل حضور فادي صبيح في أول بطولة سينمائية له إضافة هامة للفيلم، حيث أمسك خيوط الشخصية وقدمها بصدق وعفوية، تارة قد تغص الحناجر على حال الرجل، وتارة نضحك معه، وطورا تثير تصرفاته الاستهجان، ولكن قدرته على الاقناع بتبني الموقف تجعله مطروحا لاعادة التفكير به.

هكذا بدت شخصية صبيح الشهم الذي يفتقده الشارع في الواقع في كثير من الاحيان. إلا أن المخرج عبد اللطيف عبد الحميد أكد خلال تقديمه للفيلم بكلمات مختصرة، نتيجة اصابته بعارض صحي، أن “طلال” على الشاشة يشبه شخصية صبيح في الواقع حد الالتصاق، فهو حقا ذلك الرجل النبيل الذي لن يدع آخر يمر من جانبه محتاجا لمساعدته دون تلبيتها، مهما كان الثمن.
وصبيح تغيب عن افتتاح الفيلم بسبب تواجده في الجزائر لتصوير دوره في “ورد أسود”، إلا أن حضوره كان بمثابة ورد أبيض وزعه على أرواح الجميع، وكأنها دعوة منه للتمسك بالنقاء السوري الذي لا يموت.

ولم يذهب عبد الحميد بخيارات شخوصه نحو السهل، بل خلط الاوراق وقدم الفنانة شميس بدور المغنية التي ذهب بها الحال لتصبح بائعة في محل للألبسة، ولكن في لحظة غيرة زوجية تعيشها، تقتحم المطعم لتغني مع زوجها، وهنا تؤدي شميس أغنية بصوتها الحقيقي في أول تجربة لها في هذا الإطار، وقد بدت واثقة في أدائها وفي التناغم معها بعيدا عن التصنع أو المغالاة.

ولا تخف شميس في حديثها ل”شاشات” التحدي الذي عاشته مع هذه التجربة، فالمطرب المشهور أحيانا قد تنزل أسهمه مع أغنية او ترتفع، معربة عن سعادتها بالمشاركة عموما بالفيلم الذي يشبه حياة السوري في الحرب، فهو يعيش ويعمل ويضحك، ولولا أنه لا يفكر بهذه الطريقة لما بقي متواجدا إلى الان على حد تعبيرها.

وشميس التي حصدت سابقا عدة جوائز سينمائية في مهرجانات عربية، تقول: “اكيد اطمح لنيل جوائز عن هذا الدور، وأنا هنا طماعة، ولكن هذا الطمع شرعي”.

ومع أمل عرفة اكتمل التجديد في توزيع الشخصيات الذي حققه عبد الحميد، حيث ظهرت بدور العازفة رغم أنها تجيد الغناء، وانتقل ظهورها بين الحسرة والطرافة، وهذا ملعب عرفة، فكان سهلا معها حصد الضحكات العفوية.

اما الفنان جرجس جبارة فرغم مشاركاته السينمائية المتعددة، إلا أنه اعتبر هذا الظهور متميزا بالنسبة له، لما يحمله الفيلم من فكر جميل وبسيط موجه لكافة شرائح المجتمع، معربا عن سعادته بالتعاون مع المخرج عبد الحميد الذي وصفه بالممتع، متمنيا تكرار هذه التجربة.

وعموما يؤخذ على الفيلم وقوعه بالاطالة نوعا ما، فكان من الممكن اختصار الزمن مع عدد من مشاهده، كما أن خط التماس مع المسلحين لم يكن مقنعا بدرجة كبيرة، بل حمل بعض الفتور وضياع بوصلة الاقناع، فبدا وكأنه خط مقحم على الحدوتة، من دون انسجام تام معها.

وكان “عزف منفرد” عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الرباط لسينما المؤلف – دورة 23 لسنة 2018 كعرض أول له، وقد حظي عبره بجائزة الجمهور.

(الصورة: من كواليس “عزف منفرد” مع المخرج عبد الحميد والفنانة امل عرفة والفنان فادي صبيح).

في هذا المقال

شاركنا النقاش