فاتن قبيسي|
بعيداً عن لعبة الإبهار ونزعة التفلسف، تحقق مسرحية “كاستينغ” للكاتب والمخرج سامر اسماعيل اثناء المشاهدة شرط الإمتاع.. ومع آخر مشهد فيها تشعرك بالإمتلاء والإشباع.
هذا ما يمكن إختصاره حول الإنطباع الذي تخلّفه لديك المسرحية التي عرضت في “مسرح المدينة” في بيروت. فهي تركن الى نص عميق وبسيط في آن، خيالي وواقعي في آن. اشبه بعمل نخبوي وشعبي في الوقت ذاته، دراما لا تخلو من روح كوميدية. وخشبة تستعير من السينما عوالمها.
تقوم “كاستينغ” على نص ناضج ونابض بواقع سوريا المأزوم، وما خلفته الازمة من ندبات على مستوى النفوس. فيما قدم عامر العلي ودلع نادر اداءَ يمثل اقصى درجات الوفاء للمضمون، مرتكزا الى شحنات عالية من التلقائية والتفاعل.
القصة التي تدور حول مخرج يبحث عن بطلة لفيلمه المرفوض نصه منذ عشر سنوات، وهو عمر الازمة السورية، تمر بمفاصل معينة مع وصول فتاة اليه تحلم بالشهرة، بعدما كاد ان يفقد الامل بايجادها، وتأخذ تجارب الأداء التي يخضعها اليها منعطفات انفعالية تعكس حياتها المليئة بالخضات والالم مع حبيب مخيب للآمال وبلد مجروح، ليجد المخرج نفسه متورّطاَ معها في حوارات تمس مكنوناته وتفضحها. وذلك وصولاً الى لحظة توهج الخاتمة التي تفاجىء الجمهور بغير المتوقع، لتكتشف انك امام قصة من نوع “سيكو دراما”. انه سامر محمد اسماعيل الذي يحسن خواتيمه دائما في الأعمال التي يكتبها، يقفلها بتوهج الفكرة، ويأخذها الى حيث الذروة والبريق.
ومما زاد من متعة لحظة الكشف، هو تواطوء الديكور معها، من خلال تعرية الاستديو (المفترض) من الستائر، ليظهر خلفها منزل يحتضن أوهام المخرج، وذلك بموازاة تعرية حقيقته امام الجمهور، لحظة دخول زوجته (مجد نعيم) اليه.. علماً أن لحظة الكشف هذه جاءت في توقيت مدروس جداً، على حافة البدء بالشعور بتطويل تجارب الأداء، رغم ما تكتزنه من مادة لائقة وجديرة بالعرض.
هكذا نجح العمل المسرحي في سبر العوالم الداخلية لكل من جوليا (دلع نادر) وجهاد- جو (عامر العلي)، سائراً على حبل رفيع يتأرجح بين الألم والطموح والوهم. فالمخرج الذي لم يتمكن من تجاوز نصه القديم بما يرمز الى مفاعيل أزمة بلاده، يغوص في هواماته الشخصية، رافضا لشفائه منها، ليبقى على قارعة الحلم يجترّ فشله. لقد جسد العلي بمهارة الشخصية العصابية مع حسن استخدام للاقنعة التي تتبدل عبرها وجوهه بتوظيف موفّق.
وما زاد في ألق القصة هو ارتكازها الى ثلاث حكايات يتداخل فيها المتخيّل بالواقع. والواحدة تخرج من جلد الأخرى.
إنها اولاً حكاية “جوليا” الباحثة عن الحلم بالنجاح والشهرة، والمخرج الباحث عن بطلة لفيلمه. وثانيا انها حكاية “جوليا” التي عاشت مرارة ظروف عاطفية وعائلية واجتماعية، و”جهاد” المأزوم بحلمه والمريض الذهاني. وثالثاً انها حكاية الممثل عامر العلي الذي كان يبحث بالواقع عن بطلة لمسرحية “كاستينغ”، وكاد بالفعل ان يفقد الأمل في ايجادها (كما قال في مقابلة صحافية سابقا) قبل أن يجد دلع نادر. والأخيرة بدورها كانت تبحث بالفعل عن فرصة في التمثيل والشهرة بعد تخرجها مباشرة من معهد الفنون. لتتطابق بذلك مجريات الحكاية الثالثة مع الأولى، مما اضاف من الأبعاد الواقعية لأدائهما. علماُ بأن دلع نادر قدمت “جوليا” بخطوات ثابتة، وتنقلت بيسر وراحة بين عوالم الشخصية، بما يشكل لها انطلاقة مهنية واعدة.
يذكر ان سامر محمد إسماعيل صحافي وكاتب ومخرج وشاعر. في رصيده العديد من الأعمال المسرحية منها “ليلي داخلي”، و”تصحيح ألوان”، (التي نالت جائزة أفضل نص في مهرجان قرطاج المسرحي في تونس)، وعدد من الأفلام منها “توتر عالي “، ” نهري بحري”، و”حمرا طويلة”…
تجدر الاشارة الى ان مسرحية “كاستينغ.. تجربة أداء” عرضت الأحد في “مسرح المدينة”، ضمن اطار “مهرجان مشكال” في بيروت، بحضور الفنان جهاد سعد، والسيدة نضال الاشقر، ومدير “مسرح المدينة” في الحمرا لؤي رمضان.
نرشح لك:
شاركنا النقاش