فاتن قبيسي|
تزوجها وهي قاصر، وعندما لم تنجب خلال فترة وجيزة، اقنعها بأنها تعاني من مشكلة صحية، وقادها الى الطبيب للقيام بعمليات زرع متكررة. وفي المرة السابعة اكتشفت ان البويضة التي يزرعها في رحمها لا تعود له، وانما لأخيه.. فكانت الصدمة!
اتهمها بما يشكو منه، اي بعدم القدرة على الانجاب، وغشّها، ورفض تطليقها. رحلة طويلة قضتها الشابة نانسي بين القضاة وفي المحاكم لتستعيد حريتها وكرامتها. الا ان عبارةً لا تخطر في البال سمعتها من قاض رفض تطليقها، عندما نقلت له معاناتها مع نقل بويضة “غريبة” الى جسدها لسبع مرات متتالية. اذ قال لها القاضي: “هالشي حلال”!
هذه الحادثة ليست سوريالية بالمطلق، وليست من نسخ الخيال. انها شهادة نانسي التي ادلت بها في الفيلم الوثائقي “ضدي” للزميلة ديانا مقلد، والذي اطلقته مؤخرا جمعية “كفى”. وهي شهادة تكشف جهل وظلم رجال الدين في معظم المحاكم الشرعية والروحية، وتحكّمهم بمصائر النساء.
انها واحدة من سبع شهادات تتضمنها الوثائقي،على لسان صاحبات التجارب المرة. وجوههن ظهرت مكشوفة، بملامح اعاد تشكيلها الوجع. وهذه نقطة تُسجَل للوثائقي والنساء المشاركات فيه في آن.
لكن الوثائقي لم ينجح في عكس جرأة النساء فحسب، بل في حسن اختيار نماذجهن، من حيث تنوع طبيعة التجربة وتنوع طوائفهن وتفاوت مستوياتهن الاجتماعية، وذلك بالتعاون مع منظمة “كفى”. وهي نماذج تغطي كل او معظم جوانب قوانين الاحوال الشخصية. فمن زواج القاصرات، مرورا بصعوبات الطلاق، واحكام الحضانة، وتعدد الزوجات، والنفقة، وصولا الى العنف الزوجي. فنجح “ضدي” بالتكثيف والتثقيف حول قضايا، يمكن ان توفر المعلومة ببعديها القانوني والاجتماعي، من دون اطالة واسهاب.
وهكذا، اختصرت 45 دقيقة فقط (مدة الفيلم) قوانين متشعبة ومختلفة باختلاف الطوائف في لبنان، وسنوات طويلة من معاناة النساء معها. انهن سبع نساء. ولكنهن قلن اكثر من كلامهن بكثير. اختيار العبارات التي تعبر عن عمق المشكلات، عبر المونتاج، كان مدروسا ومعبرا، وبلا طول شرح. وقد رفدتها آراء سريعة لمحامين تناولوا طبيعة القوانين في معظم القضايا المتناولة. فجاء الشريط مباشرا، يسمي الاشياء بأسمائها. ولعل دخول مقلد الى المحاكم ساعدها ميدانيا في رصد بعض الحالات، وفي كيفية تناولها بلا ادعاء.
تميز الوثائقي بقوة الواقعية، بعيدا عن التنظير. فلا شيء يمكن ان يعبر عن تجارب قاسية، الا بلسان ووجدان من خاضها. وقد تعززت هذه الواقعية بعرض صور فوتوغرافية من حفلات زفاف الراويات ولقطات سابقة لهن مع اسرهن. فكانت بعض التجارب المرويّة مؤثرة، لا سيما تلك التي يذهب ضحيتها اطفال لا ذنب لهم، الى جانب امهاتهم. فتتضاعف هنا المأساة.
ولكن ليس مجرد التأثّر هو ما يخرج به من شاهد الوثائقي امس، في الجامعة الاميركية في بيروت، بحضور مقلد والمحامية في جمعية “كفى” ليلى عواضة، بل انه مزيج من الكآبة والغضب على تقاعس المشرعين في لبنان في صوغ قانون موحد للاحوال الشخصية، بعيدا عن الطوائف واجتهاداتها التي تصب كلها في خانة ظلم المرأة والاسرة عموما، وتلافيا لاستمرار الفساد المادي والاخلاقي المستشري في معظم المحاكم الشرعية والروحية، لابتزار النساء ما استطاع اليه بعض رجال الدين سبيلا. والا ما معنى ان تضطر امرأة لدفع مبلغ 20 الف دولار للحصول على بطلان زواجها من زوج، هو يوافق اساسا على انفصالهما؟! وما معنى ان يعتبر القانون بأن “العنف الزوجي يكفي للهجر فقط، وليس للطلاق ما لم يصل الى الشروع بالقتل”؟ وما معنى ان يقول قاض لامرأة اخرى تشكو اليه اهمال طليقها لطفلها المريض مطالبة بحضانته والاعتناء به: “اتركي الولد يموت، والده مسؤول عنه، انتِ ما خصِك؟!
وتضيف الأخيرة وقد خنقها الدمع: “لا يحق لك المطالبة باولادك.. فهذا عار.. يللي انتِ بتخلفيه، ومن روحك بيطلع، مش قادرة تحميه. والقانون بيوقف ضدك، والشرع بيوقف ضدك، والمجتمع كله ضدك”.
هذا بعض مما ورد في الوثائقي، الذي اختصرت احدى النساء مغزاه بعبارة واحدة فقط: “في لبنان لا يُنظر الى القضية من منظار انساني، بل من منظار ديني”. هكذا تنفصل الانسانية عن الدين في مجال الاحوال الشخصية في لبنان، لتبقى القوانين رهن امزجة وذكورية الفقهاء. وهو فصل لا يخدم الدين ولا الانسانية على حد سواء.
“بدكن تعرفوا موقع المرأة في لبنان؟ زوروا المحاكم الشرعية والروحية”، قالت مقلد، اثناء المناقشة بعد انتهاء العرض. فيما فندت ليلى عواضة بعض القوانين الصارخة والتعاطي السافر مع النساء في المحاكم. قالت عواضة ان الفيلم هو اول الغيث في اجندة “كفى”، مشيرة الى انه سيجوب كل المناطق اللبنانية، لتشكيل رأي عام حول القضية المطروحة، بما يساعد لاحقا على انتزاع قانون موحد للاحوال الشخصية من المشرّعين. تماما كما نجحت “كفى” سابقا في انتزاع قانون حماية والنساء وسائر افراد الاسرة من العنف.
ولفتت الى ان لبنان هو البلد الوحيد بين محيطه العربي، الذي لم يحظ رجاله ونساؤه بعد بقانون موحد للاحوال الشخصية. وهو تخلف يحتاج لطريق ليس بقصير للعبور الى الغاية المرجوة. “ونحن نَفَسنا طويل” اكدت عواضة.
شاركنا النقاش