فاتن قبيسي|
يعيش الفنان السوري ايمن زيدان حالة احباط كبيرة. لا بل اكثر من ذلك. انه يستخدم توصيفات مثل “الحزن” و”الوجع” و”المرارة”. فهو لا يشهد اليوم تردي الدراما السورية فحسب، كما لم يكن مجرد شاهد على ازدهارها بالامس، بل كان أحد صناع زمنها الذهبي، وأحد نجومها الذين ارتقوا بمستواها عبر سنوات خلت. اعماله الناجحة ارشيف مضيء في سجلها. و”ليس سهلا ان تساهمي خلال 30 عاما في رسم لوحة ما، ثم تصبحين شاهدة على تخريبها. هذا بحد ذاته شعور قاتل ومجرم!” يقول في حديثه ل”شاشات”.
وزيدان الذي له فضل كبير على دراما بلده، يحمل كلامه حولها بعدا اضافيا نابعا من تجربة مديدة وصراحة لا تُجامل: “الدراما السورية للاسف في حالة احتضار حقيقي، وتدخل غرفة الانعاش”!
كلام قاس ولكنه واقعي، يكسر به “صومه” عن المقابلات الصحافية منذ فترة، “فالموضوع ليس تعاليا اطلاقا، ولكنني متشائم جدا، ولا اريد نقل حالة الاحباط الى الناس” يقول. ولكن “شاشات” حظيت بحديث من الفنان المخضرم، الذي أفضى بآرائه بلا “رتوش” حول واقع التلفزيون والسينما وآفاقهما.
لمجرد مجالسة الفنان الكبير، تستحضر للتو مشاهد سريعة من بعض اعماله، مثل “نهاية رجل شجاع”، و”الجوارح”، و”ايام الغضب”، و”اخوة التراب”، والطويبي”.. تستعيد في ذهنك صورته في مختلف مراحله العمرية. اسلوبه في الحديث استقطابي، تماما كحضوره على الشاشة. ولحيته البيضاء تختزن سنوات الخبرة والنضوج والتعب، وهي سنوات رفض ان يفرّط فيها لصالح الحضور المجاني على الشاشة الصغيرة. لذا فان آخر لقطة تلفزيونية صورها منذ ثلاث سنوات. ثم توجه نحو السينما عبر المشاركة في افلام: الاب” للمخرج باسل الخطيب، و”درب السما” و”مسافرو الحرب” للمخرج جود سعيد. وانتقل مؤخرا لاخراج اول فيلم روائي له بعنوان “امينة”، بطولة الفنانة نادين خوري.
ويقول في هذا الصدد “تأتي لحظة لا يريد ان يغامر فيها الفنان بتاريخه او ان يجلس على حواف هذا المستنقع”. وكي يكون وفيا لتاريخه، يجب الا ينخرط في هذا التردي. لذك اتجت الى فضاء السينما حيث الخيال اكثر قيمة”.
ولكن ماذا عن موقع تجربة الاخراج السينمائي في حياة زيدان المهنية؟ يجيب بالقول: منذ فترة طويلة اعمل في الاخراج المسرحي. ولدي عروض عدة “للمسرح القومي السوري”. كما كان لي اربع تجارب في الاخراج التلفزيوني. كان آخرها “ايام لا تنسى”. انتقلت الى السينما، لأننا بتنا نشعر بان لدينا الكثير لنعبر عنه. هذه الحرب رمت على ارواحنا ظلال وتداعيات قاسية، وحاولتُ في “امينة” تقديم لحظة من لحظات الوجع السوري، من خلال امرأة سورية اوجعتها الحرب كثيرا، ولكنها لم تهزمها.
وماذا عن واقع السينما السورية في ظل الازمة الراهنة؟ يرد زيدان: قبل الحرب كانت “المؤسسة العامة للسينما”، الجهة الانتاجية الوحيدة في سوريا، تنتج سنويا فيلمين. اما خلال الحرب، وصل العدد الى حوالى خمسة افلام روائية وعشرات الافلام القصيرة، ومشاريع لدعم الشباب. وهي معادلة غريبة نسبيا. اما عن واقع السينما، اقول ان الفنان في الحرب ليس دائما فاعلا فقط، بل منفعلا ايضا بما يجري. فلا تستطيعين الاجابة في الزمن المنظور عن كل الاسئلة المتعلقة بالحرب السورية، ولا عن تفاصيلها. الموضوع يحتاج الى وقت لتتكشف سيناريوهات قد لا تشبه ما يجري، كما حصل مثلا في العراق، فبعد سنوات حتى علمنا بانه لم يكن هناك اسلحة دمار شامل. لذا يكون في الحروب نوعان من السينما: سينما انفعالية ووجودها مشروع وتعبّر عن تأثرها بما يجري، وسينما تحاول الاجابة عن بعض الاسئلة او تقترح اجابات. والزمن في النهاية يختار من هذه الافلام ما يحتفظ به.
ويضيف: في تجارب الافلام التي انتجت عن الحرب العالمية الثانية وعن حرب فييتنام، احتفظت الذاكرة بمجموعة من الافلام، وهناك افلام لم نعد نسمع بها. وحتى انه اعيد انتاج افلام عن هذه الحرب بعد انقضائها، بعد ان توضحت الصورة. الفن في الحروب دائما معقد. قد لا تستطعين ان تبدي رأيك، وقد يكون انفعاليا وتسيطر عليه حالة وجدانية وتشوبه عدم الدقة، لكن لا يمكن ان تصمتي. لذا لم تصمت السينما السورية ازاء الحرب ايمانا منها بأنها تؤرخ لما حدث، من اكثر من منظار، انما هناك شهادات حية عن الحرب وحقيقيتها وجوهرها.
الام يعود تراجع الدراما السورية بعد عزّ شهدته في سنوات خلت؟ لا يتردد زيدان بالاجابة: الى غياب السوق المحلية اولا، غياب المحطات جعلها مرتهنة لسوق خارجي، وله شروطه عبر تعميم ثقافات معينة. فالمسلسل رحلة معقدة، وليس فكرة وممثلين فقط ، بل هو منتج ومحطة ومعلن. فاذا استجاب لشرط ثقافة رأس المال المسيطر، انحدرت الدراما السورية، لأن ما يتم انتاجه اليوم يحاول الاستجابة لهذا الشرط. في الماضي، كنا نحن اصحاب هذا الشرط، وكنا نملي مشاريعنا، وكان هذا نابعا من قيمة مضافة مدهشة ومن مناخ عام.
ويضيف: اليوم هناك فساد عام. سأقول لكٍ امرا ليبقى للذاكرة: نحن نفهم ان الموزع السينمائي، هو رجل يستأجر صالة سينما ويقوم بحملات اعلانية لتسويق فيلمه. ولكن يصعب ان نفهم ماذا يعني المسوق التلفزيوني. اذا كان المنتج مثلا لديه ارقام المحطة، وكان لدى المحطات لجان انتقاء، من هو هذا الوسيط الذي اذا لم تمر عبره لن يمر مسلسلك؟ بمعنى اوضح هناك شكل من اشكال الفساد واللاثقافة… وقد تم احباط الدراما السورية ولم يُدافع عنها في سوريا ايضا، كي نكون شفافين، فلم يُؤسس لها بنية تحتية، ورغم نجاحاتها لم يُنظر لها على انها مشروع حقيقي، ففي النهاية الفن صناعة، ولا بد من توافر مجموعة مقومات.
وردا على سؤال يشير الى ان استباحة المهنة من قبل المنتجين الاميين والدخلاء، ناتج عن فوضى الاسواق، ولكن دائما كان هناك منتجون اميون، وليس اليوم فقط. لكن كانت البضاعة الجيدة موجودة بجوار البضاعة الرديئة، وكانت قادرة على ان تزيحها قليلا، اليوم اختلف الموضوع، ولا اعتقد ان هناك حلولا للدراما في المدى المنظور، لأنها مرتهنة لاسواق لها شروطها. الفن في النهاية رأسمال.
وحول مصير مسلسله “ايام لا تنسى” الذي لم يحظ بفرصة تسويقية يعلق زيدان: انه لا يجاري شروط السوق، ولا يمكننا ان نعيد تجربة انتاج درامية مرة اخرى. وانا لست مع التسويق الاعتباطي ايضا. ولكن المشكلة في انعدام المعايير، فالعمل لا يكفي ان يكون جيدا ليعرض على الشاشة، بل لا بد ان يمر بأنفاق فاسدة، مثل “الكوميشين” واساليب ما “تحت الطاولة”. عندما يصبح الفن يتحرك “فوق الطاولة” يتغير الوضع. ولكن لنسأل صراحة: من هو الحريص على مسلسل جيد؟ من يأخذ بعين الاعتبار رأي الجمهور بذلك؟ في التلفزيون، المتفرج هو متلق سلبي، يُفرض عليه ما يجب ان ييشاهده، لا يختار، وبالتالي، يمكن تدجينه وتعويده!
ولكن هل التوجه الى السينما يشكل بديلا كافيا اليوم؟ يرد زيدان: السينما ايضا ليست متاحة دائما، وهناك مشكلة اقتصادية، باعتبارها لا تغطي متطلبات الحياة كالتلفزيون. نحن محترفون ونعيش من هذا المجال. عندما تشتغلين اكثر من ثلاثين عاما للتأسيس للدراما السورية، يجب في سنوات اخرى ان تستمتعي وتستريحي وتشعري بالامان، ولكنننا للأسف نشعر اليوم بالخيبة!
وصحيح ان زيدان لم يساوم على اسمه وكيانه الفني من خلال القبول باعمال لا سوية فنية فيها، ولكنه يقول ان “ذلك جاء على حساب حياة كاملة. نحن اشتغلنا في التلفزيون عندما كانت الاجور لا تكاد تكفي لسد احتياجات الحياة في التسعينيات ومطلع الالفين، لذلك لم نكوّن ثروات، لنحمي انفسنا اقتصاديا لزمن قادم. ولكن هذا ليس مشكلة، بل المشكلة هي الشعور بالمرارة”.
وفي الختام، يشير الفنان ايمن زيدان الى ان فيلم “أمينة” يخضع اليوم للعمليات الفنية ما بعد المونتاج. و”المؤسسة العامة للسينما” تحدد تاريخ العرض قريبا. اما “مسافرو الحرب” فربما سيكون جاهزا بعد شهرين، وقد يعرض في لبنان بداية، وهو اول فيلم سوري من انتاج قطاع خاص (لبناني) خلال الحرب. ويأمل نجاح التجربة لتشجيع دخول الرساميل الخاصة الى السينما. ولكنه سرعان ما يستدرك مبتسما: “على ان تبقى رساميل واعية.. بعيدا عن الدخلاء على المهنة”!
شاركنا النقاش