فاتن قبيسي |
بعيدا عن قصص الحب المستهلكة دراميا، وقصص الخيانة التي يتم اجترارها على معظم شاشاتنا، يأتي مسلسل “الهيبة” ليقول كلمة اخرى.
انها قضية تجار السلاح والمخدرات. قضية العشائر الخارجة عن القانون، والتي تكشف عورات الدولة!
تبرز قوة المسلسل في واقعيته، المليئة بالتجاوزات والفوضى والاستقواء على الأجهزة الأمنية. يضع حدا لإغراء الاقتباس من قصص دخيلة. يحرّك قضية خطيرة يعاني من خلالها كثيرون مما يعيشون على الحدود اللبنانية – السورية، نتيجة فرض الخوات، وانتشار عادات الثأر والقتل المجاني.
انه انتصار الفكرة اولا. وهنا تبرز نقطة القوة الاساسية ل “الهيبة”، مدعومة بقصة منسوجة جيدا للكاتب هوزان عكو. ميزتها انها قابلة جدا للتصديق والتفاعل. لا يكفي فقط طرح قصة جديدة وواقعية، بل ان البناء الدرامي هو الاساس. الاحداث في “الهيبة” غير مفتعلة دراميا بالإجمال، والحوارات منطقية وغير ركيكة.
ولكن لا يخلو الامر من استثناء يتعلق بإقحام حدث بلا طائل، تمثل باستقبال الفتاة التي كانت في طريقها الى “زيدان” ( خصم جبل)، لتعيش في منزل “شيخ الجبل”. وسواء جاء ذلك نكايةً بزيدان، او انسجاما مع عادات الكرم العشائرية، فالفكرة بدت ضعيفة. اذ كيف تقوم العشيرة (وفقا لمبادئها) بذلك في ظل وجود رجلين في المنزل، احدهما اعزب؟!
لعله اريد تناول قضية استغلال بعض النازحات السوريات جنسيا، لكن ذلك جاء مقحما. وما محاولات “عليا” لهداية الفتاة وتوظيفها في معملها، الا لاضفاء مسحة مثالية على البطلة، التي لا تحتاجها أصلا. فشخصيات عكو بالاجمال مكتوبة من لحم ودم. كاركتيرات منسجمة مع نفسها، نابضة، مسبوكة باتقان، ولا تحتاج الى حدث مفتعل لتضيء عليها. كيلا تفقد عفويتها وعمقها في آن.
يُحسب ل” الهيبة” انه عمل جامع، يتوفر فيه الأكشن والمطاردات، والحب والرومانسية، وتتداخل فيه اجواء القرية بالمدينة، والصراع على النفوذ والمال من جانب ، والقيم والمبادىء من جانب آخر. لعل عكو يضاف الى الرباعي الناجح : شركة “الصباح للإنتاج، الفنانان تيّم حسن ونادين نسيب نجيم، والمخرج سامر برقاوي. رباعي سبق له وأنتج “تشيللو” و”نص يوم”.
يُحسب ل”الهيبة” ” ايضا انه قدم الفنانة الكبيرة منى واصف بدور من اعظم أدوارها. وهي طاقة لا تتعب ولا تشيخ. والشاب اويس مخللاتي الذي يجاري في موهبته عمالقة التمثيل. والشابة روزينا لاذقاني صاحبة الاداء المكثف. كما قدم العمل ممثلين لبنانيين بأداء لافت، كمن يفجر فيهم طاقات كامنة. كالفنان عبده شاهين الذي نجح في استغلال فرصة حقيقية، تشكل له مفتاحاً لادوار هامة مقبلة.. وكذلك أجاد كل من الفنانين خالد السيد، وحسان مراد، وكارلا بطرس وباتريك مبارك….
يدأب السيناريو على تشريح عالم العشيرة، لا تشريعه. فالعشيرة هنا متسلطة، تستخف احيانا بالدولة، وتجهدها في لعبة كَر وفر لا تنتهي. العمل يضيء ضمنياً على تقصير الدولة وضعفها في مواجهة من يكسرون هيبتها. ولكن في مقابل تجاوزات العشيرة وإجرامها، ثمة قيم لديها تتمثل بالوفاء ومساعدة الملهوف.. وعليه لا يروّج العمل لتجار الممنوعات، بل يستعرض واقع العشائر بتناقضاته وملابساته.
ابناء العشيرة لهم قوانينهم الخاصة. يقول “جبل” انه لا يعرف كم شخص قتل ، ولكنه لم يقتل مرةً ظلما. معادلة غريبة! كما ان ابناء العشيرة لا يقتلون غدرا، والرصاصة غالبا أداتهم. لذا بدا غريبا جدا، مشهد انتقام “صخر” من الشاب الذي كان يبتز ابنة عمه “ريما”. قتله حرقا وهو مربوطا بالحبل على كرسي. وهو مشهد اقرب الى ممارسات داعش، منه الى سلوك العشائر. ربما هذا الخطأ النافر الوحيد في العمل!
واذا كان المسلسل لا يسعى الى تلميع صورة الخارجين عن القانون، فان ثمة خشية من تعاطف المشاهد معهم ، وذلك لأسباب موضوعية محضة. أولها ان المشاهد يتعاطف غالبا مع ابطال العمل، حتى لو كانوا مجرمين. فكيف اذا كان البطلان تيّم حسن ونادين نسيب نجيم، الذين تتوافر فيهما عناصر النجومية والوسامة واحتراف الأداء؟
ثانيا، الاضاءة على صفات الشجاعة والغيرة على العشيرة لدى “جبل”، تجعل المشاهد، وبلا وعي منه، يمنحه أسبابا تخفيفية لكل ارتكاباته. لأن الميل الغالب هو إنقاذ صورة البطل وتبرير تجاوزاته. خصوصا وان هذه الصورة هنا متداخلة في الاذهان، بين فرادة شخصية “جبل”، وسحر تيّم حسن في الإطلالة والاداء.
ثالثا: طالما ان “عليا” المتمردة، الدخيلة على العشيرة، التي جهدت للهروب منها الى كندا. عادت ووقعت في حب “جبل” وتأقلمت كليا مع عائلة “شيخ الجبل” وأنجبت لها مولودا آخرا. فلما لا تنتقل العدوى الى المشاهد، فينظر الى شخصية “جبل” بمنظار حبيبته “عليا” التي كانت تحاربه بالامس، وباتت اليوم تعيش قلق فقدانه؟ فلما لا يتماهى المشاهد هنا مع بطلة العمل؟
هذه العوامل الموضوعية هي التي يجب ان تنطلق منها كتابة الجزء الثاني. فالكتابة هذه المرة ستكون اشبه بالمشي على الحبال. زلة القدم قد تؤدي الى السقوط.. الحفاظ على رصيد العمل وجماهيريته مسؤولية مضاعفة.. والنهاية المنطقية هي خلاصة العمل ورسالته الابرز. بعيدا عن اي حسابات للجهة المنتجة، وتجنباً لارضاء بعض الجمهور “العاطفي”.
هنّا يصبح الجزء الثاني مغامرة نأمل ان تكون محسوبة جيدا. خصوصا وان الجزء الاول قدم نهاية هي اشبه بالصورة الوردية. اذ بقي ” جبل” في داره معززا مكرما، وسط عائلته، محتفيا بولادة طفله. حتى ابن عمه شاهين الذي ابلغ الدولة عنه ( وبغض النظر عن دوافعه الشخصية) كان مصيره الموت، وكأن قيم العشائر أهم من القانون والعدالة. علما انه لو انتهت الأحداث على هرب “جبل” او اصابته او نفيه مثلا، لكان ذلك اكثر منطقية، وأشد تشويقا، بانتظار ما ستحمله احداث الجزء الثاني.
ولعل جماهيرية العمل، الذي عرضته “ام بي سي”، و”ام تي في”، تؤسس لدراما تحمل طروحات لم يسبق تناولها، لصيقة بالواقع.
.. في عمل مثل “الهيبة” لا تعد اخطاء “الراكورات” على سبيل المثال جديرة بالمحاسبة، رغم دلالاتها. ربما تغفرها قوة الفكرة وطريقة صياغتها. يُفضل تسليط الضوء على ايجابيات العمل الكثيرة اكثر من سلبياته. عله يشكل توطئة لطرح مواضيع اخرى، تشكل “تابو” في عالمنا العربي!
شاركنا النقاش