دمشق: آمنة ملحم|
في حقبتين متباعدتين قد تتكرر الوجوه، الظروف، والعلاقات وحتى الأخطاء. قد يدور الزمن بها ليعيد خلقها بوجه جديد ربما، وقد يكون على نحو متشابه جدا.
إنها ظروف تكررت، ووجوه تشابهت بين فترتي الثمانينات والفترة الراهنة من عمر الحرب السورية، وكلاهما شهدتا حروبا في البلاد ونزاعات ودمار مادي ومعنوي. زمنان حملا وجوها تلونت بالخير وأخرى غطاها الشر، وتلاقت فيهما الأوجاع وتوحدت لمواجهتهما أياد بيضاء.
هاتان الفترتان شكلتا عامل إغراء للمخرج باسل الخطيب، فنسج برفقة نجله مجيد قصصا تنبع من خبايا ما حصل ويحصل، هي حكايا تتوحد على خط النبل الذي يتحلى به أبو جاد (غسان مسعود) مدفوعا بغيرته على “نهلة” (ديمة قندلفت)، التي قادتها الظروف للهرب من زوجها المنتمي للاخوان المسلمين في فترة الثمانينات لتجد الخلاص على يدي هذا الرجل الشهم، الذي تمنعه أخلاقياته من تركها تعارك الحياة وحدها.
ورغم أن القدرية تحرمها ابنها، وتحرمه ابنه الصغير بحادث واحد لتتخلى زوجته (روبين عيسى) عنه، فتسخر حياتها لتربية ابنها الاكبر “جاد” (محمود نصر)، نجد ذات القدرية تعود لتزرع ابنة نهلة “تيما” (تجسدها ايضا ديمة قندلفت)، في طريق “جاد” وبلحظة مصيرية أيضا، لتكرر الحياة لعبتها مع المرأة والرجل الذي نجده يحذو حذو والده لا شعوريا، فهو الكاتب الحساس الذي لا يمكنه ان يتفرج على امرأة تسلب حريتها وحياتها بفعل الحرب.. ولكن العبثية تردي “جاد” أخيرا صريع نخوته ليلقى حتفه بلحظات فنية عميقة التأثير.
الانسانية هي الخط العريض الذي يحتفي به فيلم “الاعتراف”، ويدعها تنتصر على كل محاولات تشويهها بداخلنا، هو ليس اعترافا لفظيا ينطقه أبطال العمل في سياق حدوتة ما، بل هو اعتراف يقدمه صناع العمل بأن الانسانية نبتة لا تذبل، ومن يزرع بذورها حتما سيحصد ثمارها، وفي الوقت ذاته إن زرعت في تربة خاطئة ستولد نبتة فاسدة كحال زوج “نهلة” الاخونجي (وائل ابو غزالة) ، وابنه “حسن دوبا” الذي يكبر لنراه في صفوف المسلحين في زمن الحرب الحالي.
الفيلم تميز بمشاهد إبداعية ولقطات بانورامية للريف السوري حملت ألق الاخراج بعين باسل الخطيب، فرأينا الكاميرا تتحرك صعودا وهبوطا متخذة زوايا ومشاهد برفقة مؤثرات بصرية يكاد يشعر المتفرج معها بأنه جزء من الحكاية. كل ذلك ترافق مع موسيقى تصويرية لعب فيها سمير كويفاتي على وتر الإنسانية بحرفية.
كما كان للرمزية حضورا عبر حبات المطر الكثيف المرافق لنيران قد تحرق الاخضر المحيط بالمكان، ولكن لمطر الفرج مكانه الذي لا يغيب، والمترافق مع صفارة الطفل “جاد” (ربيع جان) الذي يقفز على درجات غابة الريف مشجعا منتخب بلاده، معلنا دخول “الغول” بذات اللحظات التي يستطيع والده فيها انقاذ “نهلة” من براثن الزوج، فهو “غول” انساني في مرمى الحياة.
ويحسب للفيلم أنه حمل البصمة الأولى للفنان العالمي غسان مسعود في عالم السينما السورية، انها بصمة لافتة، فلم يكن مسعود بحاجة للكلام، بل استطاع الرجل أن يختصر الكثير من الكلمات والرسائل الانسانية بنظرات عينيه وايماءات جسده. فهو يجيد تقمص الشخصيات المكثفة المدروسة ليلفظها على الشاشة السينمائية أناقة وابداعا.
وكذلك بدت الفنانة ديمة قندلفت بتجربتها الثالثة أمام كاميرا الخطيب السينمائية متمكنة الحضَور، جذابة عبر الشاشة الكبيرة، مفعمة بطزاجة الأداء وعفويته، أجادت لعب الشخصيتين باحكام على أدوات كل منهما، رغم أنهما سيدتان متقاربتان عمريا، إلا أنهما متباعدتان زمنيا، محققة ثنائية لطيفة مع الفنان محمود نصر ولو بعدد قليل من المشاهد.
كما كان لأدوات روبين عيسى “ام جاد”، وكندا حنا “زوجة جاد” حضورا لافتا، حيث تطلبت مشاهدهما اتكاء على دواخلهما ولغة العينين للتعبير، وإثارة العواطف بردات فعل طبيعية ابتعدتا فيها عن المبالغة.
وحقق الفيلم حضورا مختلفا للفنان وائل أبو غزالة “الاخونجي”، ومن ثم المسلح بذات الصيغة عموما، مع اختلاف في المرحلة الزمنية.
اما من ناحية الحدوتة المغلفة بالانسانية عموما، فالخط الذي لم يكن موفقا جدا فيها هو خط اختطاف القاضي وتخليصه من قبل شاب عسكري واحد (فارس ياغي) بغض النظر عن الأداء الذي كان جيدا، ولكن الظرف العام الذي ظهرت فيه هذه المشاهد كانت الاضعف لناحية الحبكة.
الفيلم من انتاج المؤسسة العامة للسينما 2017 ورغم تأخر عرضه ( سبقه عرض “دمشق – حلب” للمخرج الخطيب أيضا) إلا أن حكايته تصلح لأي زمان وأي مكان، ويغلب الخط الانساني عليها كحال “دمشق حلب”. وهذا ما أكده الخطيب ل”شاشات” حول خلفية العرض معربا عن سعادته بإطلاق الفيلم ووصول رسالته للحضور ، الامر الذي لمسه بعد العرض مباشرة من الجمهور.
ونوه الخطيب بأن الازمة السورية هي أزمة انسانية بالدرجة الأولى، لذا لابد من التعبير عنها بإطار انساني بحت لتصل الرسالة للخارج، فبعد ثماني سنوات من الحرب، السينما بحاجة لأساليب جديدة لإيصال رسالتها.
وأعرب الخطيب عن سعادته للتعاون السينمائي الاول مع الفنان غسان مسعود بعد عدة أعمال تلفزيونية، مؤكدا بأن وجود مسعود مكسب للسينما السورية عَموما.
اما عن شراكته بكتابة النص مع ابنه مجيد، فيعتبر الخطيب بأنها شراكة مثمرة كونهما ينتميان لجيلين مختلفين ويحملان وجهتي نظر مغايرتين، وبالتالي تلاقي أفكارهما سيولد الاختلاف والجديد، لاسيما مع حالة الحوار المستمر بينهما.
بدوره الفنان غسان مسعود أعرب عن سعادته لإطلاق عمله السينمائي الأول داخل بلده سوريا، منوها بأنه من الممكن أن يكرر هذه التجربة داخل البلد، رغم تعريجه على الظروف الانتاجية السينمائية الصعبة.
كما أشارت الفنانة روبين عيسى إلى أن العمل مع المخرج الخطيب يحمل الفنان المسؤولية كونه يركز على العالم الداخلي والعميق للشخصيات، فيتطلب أدواتا خاصة من الفنان، معربة عن سعادتها بهذه التجربة التي تضم نجوما في الفن السوري، لا سيما استاذها الفنان غسان مسعود وتجسيدها لثنائية معه في الفيلم.
ووصف الفنان وائل أبو غزالة الفيلم بالتجربة الممتعة منذ لحظات التصوير، حيث ساد جو الشراكة بين المخرج والفنانين في العمل، فهي تجربة قدمت له الكثير على الصعيد الفني وتعلم منها الكثير، متمنيا تكرارها مع المخرج الخطيب.
أما عن العرض، فينوه أبو غزالة بأن العرض يحمل شعورا مختلطا ما بين الخوف والفرح، متمنيا أن يحقق الفيلم صدى جماهيريا إيجابيا، معتبرا أن خياراته بعد هذه التجربة ستصبح أكثر دقة.
الفيلم أطلق بعرض خاص، لتنطلق عروضه الجماهيرية في 25 تموز الجاري في دمشق، وباقي المحافظات السورية.
شاركنا النقاش