خاص: “شاشات”|
ولد زياد الرحباني في العام 1956 في قرية أنطلياس الساحليّة (المتن/لبنان)، لمبدعَين من عمالقة الفن في تاريخ لبنان الحديث: عاصي الرحباني وفيروز. بدأ دراسة البيانو والنظريات الموسيقية منذ طفولته واستهل مسيرته الفنية مطلع السبعينيّات ممثلاً وعازفاً في مسرح الأخوين الرحباني وفيروز، كما كانت توكل إليه أحياناً مهمّة المشاركة في التأليف الموسيقي.
في العام 1973 قدّم عمله الخاص الأول، “سهرية”، المسرحية الغنائية التي حملت بعض تأثيرات المسرح الرحباني، ولكن في إطار خاص. تطوّر نمط زياد في المسرح، نصاً وإخراجاً وتمثيلاً، وذلك باتجاه الواقع اللبناني (الاجتماعي والسياسي)، فاستقل تماماً في الأعمال اللاحقة (“نزل السرور”/1974، “بالنسبة لبكرا شو”/1978 و”فيلم أميركي طويل”/1980). ثم بلغ الانقلاب على النَفَسْ التقليديّ، عن طريق التهكّم الحاد، في “شي فاشل” (1983).
بدأ زياد الرحباني التأليف أثناء دراسته الموسيقية، فاتجه منذ البداية نحو التجديد في الأغنية اللبنانية، نصاً وموسيقى. كما أَوْلى الموسيقى الآلاتية (الصامتة) اهتماماً جدّياً لم يكن مألوفاً في الثقافة الفنية اللبنانية والعربية عموماً. ولا شكّ في أنه حقق إنجازاتٍ كبيرة في هذا السياق. غير أن صورة زياد لدى الجمهور اللبناني والعربي الكبير لا تقتصر على هذه الملامح الموسيقية، وإن شكّلت في الواقع أساس تجربته الاستثنائية. فزياد، من جهة أخرى، مسكونٌ بهمّ إنساني واجتماعي/سياسي، يعبِّر عنه في أغلب الأحيان عن طريق الفكاهة والسخرية.
أما وأن مشاركته في “مهرجانات بيت الدين” تقع تحت خانة الموسيقى، فمن المفيد التركيز على هذا الجانب من شخصية زياد الرحباني، الذي أراد أصلاً أن تكون الموسيقى مهنته الأساسية، بل همّه الأول والأخير.
زياد الموسيقي
1- أسلوب وأنماط
زياد الرحباني هو فنان الشعب بكل فئاته، إذ يلجأ دوماً إلى أساليب التعبير التي تصل إلى كل الناس عبر السهل الممتنع. ويتجسّد ذلك في النص واللحن والتوزيع الموسيقي، حيث الشكل البسيط يغلِّف مضموناً معقداً. ففي قلب التجديد، احترم زياد الذائقة الشعبية، بمعنى أنه ليس طليعياً حدّ انقطاع التواصل مع الجمهور العريض والتوجُّه حصراً إلى النخبة، كما أنه لا يلجأ أبداً إلى القاموس الفني المحافظ أو التقليدي الشعبَوي لمخاطبة الناس. ففي الوقت الذي يسير فيه اللحن بسلاسة، ثمة خلفية تحمله وتزيّنه في الخفاء وترافقه إلى مناطق السمع الباطنية وتحرسه من التآكل عبر الزمن. إنه التوزيع الموسيقي الذي لم يشهد له العالم العربي مثيلاً في تاريخه. فبحِسّه الفنّي الخاص، يوزّع زياد المهام على الآلات، ليؤدي كلٌّ منها دوره في تأمين ولادة العمل وتطوره البديهي وغير المتوقّع في آنٍ معاً. والأهم، من دون ادعاء. العفوية في الإبداع هي سرّه الفنّي الكبير.
تشكّل هذه الخصائص قاسماً مشتركاً بين كل أعمال زياد الرحباني الموسيقية والغنائية من دون استثناء. أما لناحية النمط الموسيقي، فيبدو من الصعب حصر نتاج زياد الفنّي بمجمله في خانة معينة. حتى أن معظم أعماله لا يمكن تصنيفها أو نسبها إلى تيار واضح، ولو تناولناها بشكل مستقل. إلا أنه من الممكن مبدئياً الكلام، أولاً، عن عنوانٍ عريض واحد: الفن الشعبي بالمعنى النبيل للكلمة. وثانياً، عن نمطين أساسيَّين: الشرقي والغربي، بعد سحب عبارة “جاز شرقي” من التداول نهائياً، ذاك التنميط الشمولي – والخاطئ أساساً – لكل أعمال زياد.
في الكتابة الموسيقية الشرقية، يعتمد زياد التخت الشرقي الكلاسيكي كقاعدة أساسية بطبيعة الحال. غير أنه لا يكتفي بهذه التركيبة ولا بطريقة أدائها التقليدية (الأحادية الصوت)، فيضيف إليها القدْر الممكن من الآلات والكتابة الهارمونية، بحدود المحافظة على روح العمل الشرقي وعدم إزعاج مزاجه الخاص. هذا في حال المقامات التي تتضمن ربع الصوت (“إسمع يا رضا”، “سلملي عليه”، “انشالله ما بو شي”، “ما شاورت حالي”، موسيقى “ديار بكر”،…). أما الشرقي الخالي من ربع الصوت (ومن ضمنه الأعمال التي قد تحوي ربع صوت بشكل عابر)، فيتعامل معه زياد بحُرّية أكبر لناحية الآلات والتوزيع (موسيقى “وقمح”، “ضاق خلقي”، “مش قصة هاي”، “قصة زغيرة كتير”،…) وحتى الإيقاع (“يا ليلي ليلي ليلي”). كما قد تجتمع الحالتان في عملٍ واحد (“شو هالإيام”).
في الكتابة الموسيقية الغربية، يجد زياد مصادره، لحناً وتوزيعاً (أي تأليفاً)، في الموسيقى الكلاسيكية الغربية (البناء أو الهيكلية، التطوير، التوافق والتقابل الهارموني،…)، الصول والفانك والجاز (المنظومة الهارمونية، المسافات الصوتية، الارتجال، الإيقاع، طريقة استخدام النحاسيات، المرافقة،…). في الحالة الأولى، يتأثر زياد بحقبة الباروك (باخ، هاندل،…) وبالرومنطيقيّين وما بعدهم أحياناً. وفي الجاز، يميل إلى تيار الـBe-Bop عموماً.
أما الموسيقى الشعبية والفولكلورية (الشرقي منها والغربي) التي تأثر بها زياد منذ بداياته فهي الأرمنية والكردية والبلقانية والبرازيلية والمصرية، واللبنانية (أو المشرقية عموماً) بطبيعة الحال وغيرها.
كل هذه المروحة من الأنماط المتباعدة والمتقاربة والتأثرات القديمة والحديثة تتداخل غالباً في أعمال زياد الرحباني الفنية. قدّ يطغى لون على آخر هنا، وقدّ يتدخّل المؤلف ويبتكر بأسلوبه الخاص تعديلاً أو إضافة على قواعد هذا التيار أو ذاك. وكل ذلك، يزيد الأمر تعقيداً في محاولة التصنيف المحدَّد لكل عمل أو التنميط العام لمجمل نتاج زياد وتجربته الموسيقية الغنية… إنها بصْمَته الفريدة التي يوقّع بها كل تحفة تخرج من محترفه إلى الناس.
2- أعمال
لا مبالغة في القول إن أعمال زياد الرحباني الموسيقية لا تُحصى. فما صدر منها هو جزءٌ من ريبرتوار ضخم، بعضه مسجّل وغير منشور، وبعضه الآخر لا يزال حبراً على ورق. لذا نكتفي بالإشارة إلى أبرز الأعمال المنشورة، بدءاً بثمرة تعاون زياد مع والدته، السيدة فيروز.
في العام 1979 أنجز زياد ألبومه الأول لفيروز، وهو بعنوان “وحدن”. تلَت بداية التعاون هذه، سلسلة محطات هي “معرفتي فيك” (1987)، “كيفك إنت” (1991)، “مش كاين هيك تكون” (1999) و”ولا كيف” (2001)، بالإضافة إلى “إلى عاصي” (1995) العمل الذي أعاد فيه توزيع أغنيات من ريبرتوار الأخوين رحباني و”بيت الدين – 2000″ الذي حوى تسجيلات حيّة من حفلات “مهرجانات بيت الدين”. في العام 2010، وقّع زياد آخر ألبوم جمعه بالسيدة فيروز وحمل عنوان “إيه، في أمل”.
في النصف الثاني من السبعينيّات أصدر زياد الرحباني ألبومَيْ “بالأفراح” و”أبو علي”، وفي العامين 1984 و1985 أصدر شريطَيْن شكّلا حدثاً موسيقياً مفصلياً في مسيرته، “أنا مش كافر” (حجر الزاوية في الأغنية الملتزمة اللبنانية خلال الحرب الأهلية) و”هدوء نسبي” (إحدى أهم تجارب تطوير الموسيقى العربية). في العام 1995 أصدر مجموعة من الأعمال الغنائية بصوت الراحل جوزيف صقر (ألبوم “بما إنو”) تلاها في العام 2001 “مونودوز” مع المغنية سلمى مصفي، وفي العام 2006 “معلومات أكيدة” مع الفنانة لطيفة التونسية.
أما آخر إصدار مستقلّ له فهو التسجيلٌ الحيّ لباقة من أعماله الشهيرة، من الحفلات التي أحياها في العاصمة السورية ضمن فعاليات “دمشق عاصمة عربية للثقافة – 2008”.
في مجال الموسيقى التصويرية، كتب زياد الرحباني العديد من الأعمال الموسيقية لأفلام لبنانية وعربية (آخرها لأول فيلم روائي سعودي بعنوان “ظلال الصمت” للمخرج السعودي عبدالله المحَيْسِن)، بالإضافة إلى موسيقى وأغان لمسرحيات ومسلسلات تلفزيونية وغيرها. كما أقام حفلات عدّة في لبنان وفي دول عربية وأوروبية.
شاركنا النقاش