دمشق: آمنة ملحم|
ربما أثار كلام الفنان عابد فهد في لقائه التلفزيوني الاخير في برنامج “حكايتي مع الزمن”، على قناة “دبي”، حول قلة الوفاء في الوسط الفني وتوقعه بابتعاد زملائه عنه اثناء كبره، دهشة البعض، وكان أولهم زوجته الاعلامية زينة يازجي. لكن فهد اكد خلال اللقاء أن كلامه نابع من تجارب لفنانين كبار مروا في مرحلة اهمال ممن حولهم.
في الواقع من قصد “المركز الثقافي العربي” في أبو رمانة، لحضور”اماسي 22 ” التي خصصت لذكرى رحيل الفنان القدير نهاد قلعي بعنوان “ربع قرن على الرحيل”، سيدرك حقا ان كلام فهد صحيح تماما، فما استعرضته الأمسية، بحضور عدد من الفنانين، من سيرة حياة لقامة كبيرة من الرعيل الفني الذهبي، مؤسس المسرح القومي السوري، البارع في الدراما والكوميديا تأليفا وتمثيلا واخراجا، كان مؤلما بحجم الغصات التي سردتها ابنته مها عن ابتعاد رفاق الدرب والنجاحات، بعد تعرضه لحادث لم يوقف نبض ضحكته او خفة ظله، بل عمد من حوله الى خطفها، فلاقى ذلك بدموع ذرفها مرات ومرات، بسبب قلة الوفاء وانقطاع المقربين عنه.
نهاد قلعي رفيق التلفزيون السوري منذ لحظة انطلاقته الأولى، كانت أحلامه الفنية كبيرة، فوزعها مسرحا ودراما وسينما، وكانت أمنيته الموت على خشبة المسرح. لكنه ترك في بيته ليموت ببطء شاكيا الغدر والاهمال. وكانت خيبات ذلك الحلم كبيرة، وحاول تبديدها بالكتابة للأطفال في مجلات متخصصة في آخر سنوات عمره.
لم يكن “حسني البورظان” فنان فقط، بل مجملا بإنسانية عالية، هذا ما أكدته الفنانة القديرة ثناء دبسي في حديثها عنه ضمن الامسية التي ينظمها الاعلامي ملهم الصالح في آخر خميس من كل شهر، وقد خصصت هذه المرة لذكرى الفنان نهاد قلعي.
استرجعت دبسي ذكرياتها معه في المسرح حيث كانت انطلاقتها على يديه، وكان دائما يناديها بابنته، وباب مكتبه كمدير للمسرح القومي لم يغلق في وجهها أو وجه أحد يوما، منوهة بأن المسرح القومي لم يعش فترة ازدهار كما كان في عهده، فكان يرافق العروض اينما تنقلت دون انقطاع، واعتبرت ان غيابه يشكل خسارة حقيقية للمسرح، وانه يستحق التكريم دائما، وختمت حديثها عنه بأنه باختصار: “موهبة، بساطة، نبل وكرم”.
كما تحدث الفنان سليم صبري الذي رافق الأمسية أيضا أنه كان يحلم برؤيته في بداياته الفنية، فكان خير يد مدت له، وعنه قال: نهاد عقل وعاطفة كبيرة ويد ممدودة للجميع حتى دون وجود حاجة، كل ما كتبه لامس الناس، فكان يغور في داخل الانسان. هو مبدع دون شك ولن يعادله مثيل، كما أنه لم يأخذ حقه كما يجب، لأنه كان صاحب كلمة الحق البعيد تماما عن أي رياء أو كذب.
وبدوره الفنان محمد الشماط وصفه بالاستاذ والمربي، وأنه كان واسع القلب جميل الكلام مثالي الخلق، كان يبتسم بوجهه وليس بفمه، فكان أخاً لكل من عاشره. واعتبر انه صاحب فضل كبير عليه مع الفنان دريد لحام والمخرج خلدون المالح بانطلاقته التي كانت مع “أبو رياح” في “صح النوم”، الذي أحبه الجميع لجمالية وابداع تأليفه.
كما لفت الناقد نضال قوشحة الى أن الفنان نهاد قلعي كان يكتب ويمثل وصاحب فكاهة حاضرة على الدوام، كما يعتبر مع أبناء جيله أبرز صناع الضمير السوري والعربي، منوها بأن فيلم “عقد اللولو” الذي شكل الظهور السينمائي الأول للثنائي نهاد ودريد لحام استمرت عروضه في دمشق وبيروت عاما كاملا، وهذا لم يتحقق لأي فيلم سوري آخر من انتاج عام أو خاص.
كما أكد قوشحة أن قلعي كان سفير اللهجة السورية، وشكل مع الفنان دريد لحام الدويتو الأشهر في تاريخ السينما العربية، وأن قلعي أول من أوجد في سوريا ما يسمى بأعمال البيئة الشامية عبر “حارة كل مين ايدو الو”، فشخصياته تجذرت في التاريخ كشخصيات شعبية في حي دمشقي، وهو رائد بكتابة البيئة الشامية.
إذاً جاءت الامسية ثرية بالحديث عن حياة الفنان الشامل نهاد قلعي، وتخللها تقرير عنه، وعرض لفيلم سينمائي وثائقي عن حياته “إذا أردنا أن نعرف نهاد قلعي” من اخراج مصطفى البرقاوي في العام 2010. ضم الفيلم شهادات من عمالقة في الفن السوري ورفاق دربه، منهم الراحل رفيق سبيعي، والراحلة نجاح حفيظ، وياسين بقوش، والفنان دريد لحام… وقد أجمعوا على انسانيته العالية وذهبية فنه وتواضعه ومحبته.
رغم مضي ربع قرن على رحيله، لن يغيب صاحب “صح النوم” من أذهان كل من عرفه، فمع أعماله افتتحت بوابة انطلاقة اللهجة السورية دراميا، وكانت بداية الانتاج الدرامي السوري.
ومع ابنته مها قلعي رفيقة أيامه بحلوها ومرها، كان الختام بالتأكيد على حرص وزارة الثقافة على تكريم أبيها وابداعه دائما، وهو الحائز على وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، وتكريمات متعددة. وأشارت الى ان فترة علاجه كانت متابعة من قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حرص على التواصل معه حتى أواخر أيامه، كما أن حياً دمشقياً يحمل اسمه. ولكن قلة وفاء رفاقه لا تغيب عن بالها، وتبقى حسرة في قلبها، تماما كما كانت حسرة في قلب أبيها.
شاركنا النقاش