فاتن قبيسي|
قليلا ما تخرج من صالة السينما، وتبقى مشاهد من الفيلم عالقة في ذهنك لساعات طويلة. يومان مضيا على العرض الخاص لفيلم “كفرناحوم” للمخرجة نادين لبكي، ولا تزال المأساة التي عالجها الفيلم تنكىء اوجاعا خبرناها سواء في بيئتنا الضيقة، او في المجتمع اللبناني، او في الوطن العربي ككل.
في طفولتنا عايشت تجربة امرأة تفتقد الى ادنى معايير الحياة الزوجية الكريمة، حيث يغيب المال والعلم .. والحب ايضا. كانت تتعرض للتعنيف من قبل الزوج، الذي كان شبه عاطل عن العمل، ومع ذلك انجبت منه 12 ولدا. مات منهم ثلاثة ابناء من الشقاء، فيما كابدت وحدها طوال سنوات، من أجل تربية البقية.
وكنت لا أنفك أتساءل: كيف لهذه الزوجة ان تنجب 12 ولدا؟ الفقر شيء والوعي والعاطفة شيئان آخران. فالفقير يمكن الا يكثر الانجاب، ويمكن ان يمنح طفله شيئا من الحب. فالجوع لا يلغي بالضرورة عاطفة الامومة او الابوة. أما ان يجتمع البؤس مع الجهل والقسوة، فهذا قمة التراجيديا. والأطفال هنا هم اكثر من كبش محرقة. هم ضحايا ثالوث ظالم.
لا اقول ذلك الا للتأكيد بأن “كفرناحوم” اطلق صرخته من هذه البيئات الاجتماعية، التي تحتاج الى من يغيثها من نفسها وجهلها اولا، ومن ظلم المجتمع ثانيا، وتهميش الدولة ثالثا…
وهذا ما يميز افلام نادين لبكي. انها تحمل قضية.. بل قضايا: كتم القيد، زواج القاصرات، عمالة الاطفال، الفقر والتهميش، بيع الاطفال، سجن الاحداث، العاملات الاجنبيات، اللجوء السوري، والهجرة غير الشرعية .. كلها مواضيع عالجها الفيلم بواقعية شديدة. يكفي أن نعلم بأن الأبطال هم أصحاب تجارب حقيقية مماثلة تماما لما قدموه في الفيلم، لذا فإنهم كانوا يعبرون عن حالهم ويتكلون بألسنتهم، لا بلسان الشخصيات المرسومة بلغة السينما.
السيناريو الذي يجمع كل ذلك في نص واحد يحمل سياقا متماسك، يركن الى ذكاء وعمق. وموسيقى خالد مزنر تشد أزر النص اكثر وتتحالف معه. والاخراج فرض حرفيته على طول الاحداث. ولعل النجاح في اختيار بعض مواقع التصوير، حيث مظاهر البؤس والفقر المدقع، سجل نقاطا لصالح الاخراج، حتى قبل ان تدور العدسة. وثمة مشاهد هنا تعيدنا الى فيلم “ما وراء الغيوم” للمخرج الايراني العالمي مجيد مجيدي، الذي عرض مؤخرا في “مهرجان الفجر السينمائي” في ايران.
كما أن براعة اختيار الممثلين بدءا من الطفل السوري زين الرفيع (لعب دور طفل لبناني)، شكلت بطولة اضافية الى جانب الأبطال أنفسهم. ذاك الطفل الذي تختزن تعابير وجهه حزن الارض، والذي تفضح ملامحه، صامتا، كل شيء، قبل ان تتواطأ مع فحوى كلماته.
اراد “زين”، ابن ال12 عاما، رفع دعوى على والديه لأنهما انجباه. فكرة رمزية بالمطلق، لكنها طافحة بالواقعية، وفكرة محقة وعادلة. كيف يستسهل الفقراء كثرة الانجاب؟ قد يكونون هم ايضا ضحايا في بيئاتهم، ولكن هذا المجتمع بحاجة الى التوعية اولا… قبل الاحتضان والمساعدة على إعالة أسرهم. لعل الرسالة التوعوية هذه هي من ضمن اهداف الفيلم.
يفتقد “زين” الى اهم مقومات الحياة، بما فيها اوراق ثبوتية. والاخطر انه يعمل ليعيل عائلته الكبيرة، شعور ثقيل بالمسؤولية داهمه قبل ان يشتد عوده. يعيش في جو من السباب والشتائم التي لا ينفك يستخدمها في يومياته. لغة الشارع لغته التي تعلمها من اهله، وليس من الشارع فحسب. وكذلك الذل والضرب الذي يتعرض له من قبلهم، وهو يدافع عن حق اخته القاصر من زواج مبكر. فكان ظلم ذوي القربى اشد ايلاما مما لقيه في الشارع.
ثلاث سنوات استغرق التحضير للفيلم، (كتب السيناريو نادين لبكي، وجهاد حجيلي، وميشال كسرواني، بالتعاون مع جورج خباز وخالد مزنر)، وستة اشهر استمر تصويره، و520 ساعة مصورة انتهى بها المونتاج الى 123 دقيقة. ولعل عملية المونتاج هذه هي بمثابة انجاز فيلم آخر لناحية الجهد المبذول. وبما ان الفيلم ينقل تجارب معيوشة، فان القيمين عليه عاشوا هذه التجارب حتى نهايتها في الواقع، حيث ساهمت المخرجة لبكي والمنتج والموسيقي خالد مزنر في توفير اوراق رسمية للاثوبية “رحيل” المشاركة في الفيلم، والطفل “زين”، مما اتاح له وعائلته، بعد انتهاء التصوير، السفر الى النروج من باب اللجوء السياسي.
“كفرناحوم” يدفعنا الى الكفر اكثر بالنظام اللبناني والقيمين عليه. عنوانه العريض المضمر هو خرق “اتفافية حقوق الطفل”. والفيلم نال جائزة لجنة التحكيم في “مهرجان كان السينمائي”. وثمة سينمائيون لا يحلمون بالجوائز فحسب، بل بأن تحرّض افلامهم المسؤولين لمعالجة واقع مرير. فهل ثمة حظوظ لهذه الاحلام في بلد سحقه زعماؤه.. مثل لبنان؟
شاركنا النقاش