محمد قبيسي|
على الرغم من انحسار فرويد في الادب العالمي المعاصر، نعود الى “طواطمه” ونسخته عن الدين والتوحيد. تلك النسخة تقترح أنّ ما يُعْوِز إرثَ زياد الرحباني الفني ليوازي ديناً هو ان يقتله أبناؤه – هؤلاء الذين لا يستطيعون سلخ لغته عن ألسنتهم، او طرد موسيقاه من ادمغتهم، مهما اختلفت آراؤه مع أولياء نعمهم.
يوم كان بعض هؤلاء أتباعاً ومقلّدين لم ينجوا من تذمّره. صفّقوا في مسرحيّاته لحظة لم ينتظر تصفيقاً، أخذوا من لغته قشرة تتناسب مع هياكلهم الطائفية او الاجتماعية التي لا يتفق معها زياد، بل التي كان ينتقدها أصْلاً. كان هؤلاء قبل غيرهم، اذن، تجليّاً للرجل بأنّه لم “يتمّ العلم” (حسب ادعاء البعض). أصبح خياره الوحيد ان يتمسّك برؤيته التي لم يرَ لها تكاثراً خارجه.
السيناريو نفسه حصل مع موسيقاه. في بيروت التي لم يتركها، قبل الحرب وخلالها وبعدها، الّف زياد الرحباني موسيقى لم تتكاثر خارجه تأليفاً او حتّى توزيعاً.
التجارب الموسيقية، كما الفكرية، تغتني من حوارات حيّة بين اساليب تتقاطع وتتعارض وتنسجم. “سارتر” لم يجلس وحيداً في مقهاه الباريسي، كان محاطاً بأنداد ومحفّزين. “شارلي باركر” لم يعزف وحيداً في نيويورك، كان الى جانبه عمالقة مثل “ديزي غيليسبي” و”باد باول” وكثيرين غيرهم. “جورج غيرشوين” يؤلف اغنيته الشهيرة عن الصيف، فنظل نسمعها لعقود بأساليب اخرى من “مايلز دايفيز” و”نينا سيمون” و”آرت بيبر” وعشرات غيرهم. اما موسيقى زياد، فالوحيد الذي يعيد توزيعها هو زياد نفسه، واذا ما اعادها غيره فبإنقاصٍ وضمورٍ، عوض عن ضخ حياة جديدة تأويلية فيها.
قتلة زياد، اذن، ثلاثة. الاول سيّاف يحمل سلاح السلطان كونه يأكل من خبزه. والثاني ابن قلّده دون ان يلمس جوهر رؤيته، فأرهقته، بعد زمن، المسافة بين لغةٍ اعتنقها وذاتٍ بقيت غير منسجمة معها. اما الثالث فهو من لم يوفّر بيئة ديناميكية تنعش الفكر والفن، الغارق في غياب الموهبة والدأب واللغة البسيطة الصادقة. وفي احيان كثيرة، يتقاطع الثلاثة في شخص واحد!
وإذا كان حلّ مشاكل المجتمع اللبناني عند الأخوين رحباني كامناً في أحلام طوباوية كمن يداوي سرطاناً بالنكران، فإن زياد الرحباني تعامل معها بتشخيصها أوّلاً. زياد لم يقزّم المجتمع اللبناني. هو وصفه فحسب كي يريَنا ما نحن عليه من مسافة الفنّ. الأصوات التي تناوئ وصفه وتتهمه بالجمود او بالمناكفة، إنما هي جزء مما يجعل الوصف تقزيماً. حلوله”الستالينية” غايتها استئصال السرطان، ومن لا يتّفق معه على حلّ استئصالي، فليقترح علاجاً كيميائياً آخر. هذا مع ان ما سمّي ب”الستالينية” عند زياد، لم يكن ليفوق ما قد يقوم به اي شرطي اميركي او اوروبي اليوم، كردّ فعل على اي سلوك من شأنه ان يعرقل مسيرة نهار واحد من الانتاج.
تتكلمون عن المرأة العاهرة في مسرح زياد، وتتغاضون عن صوت زوجها الذي ارتفع في “بالنسبة لبكرا شو” ليطالب بعيش افضل له في بلده، عوض ان يضطر للسفر إلى الخليج كي يعمل في مطعم يدور. تتناسون ارادياً ان ثمة امرأة اخرى عند زياد ترفض البطريركية في “مش فارقة معاي”، وتحكي الحقيقة خالصة في “خلص الحب”. كذلك “شي فاشل” هي دعوى للتحرّر من التقليد وايجاد لغة اقرب الى الواقع المعاش من الموروث الممجوج الذي لم ننج منه حتى الآن:
سمعت البارحة أغنية تقول كلماتها: “ميلي يا حلوة ميلي يا غصن البان”. هذه أغنية أنجزت في ٢٠١٨! ما هو هذا البان الملعون الذي ملأ عشرات الاغاني والقصائد وما يزال؟ ليس زياد من يصارع طواحين هواء، بل هو المعترض الاول على ال”دون كيشوتية” المجنونة التي لم تتفلت من المألوف في الاغنية والمسرح. ابو الزلف في المسرحية – كما المقنّع في “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” – هو المتذمّر على لغة عصيّة على التجدد، وعاجزة عن الشفافية، اكثر منه مناكفاً لمارونية سياسية.
كما ان زياد لم يغفل عن ملاحظة الطفرة الشيعية. في اغنية تتوقع بأن الحرب اللبنانية “راجعة بإذن الله” في العام ١٩٨١، مقطع مخصّص لزوال الشاه في ايران. ما الذي جعله يجاور حربنا بزوال نظام الشاه؟ وفي العام ١٩٩٣، رأينا الطفور الشيعي المتمثل في حشر “حسن” وجهه في كل الاطر مرتبطاً بتضحياته كمقاوم كون اخيه شهيداً.
كذلك، صوّرت “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” البيروتي صرّافاً ومتزوّجاً من مسيحيّة، وفي ذلك استشراف واضح لزواج “القوات” من “تيار المستقبل”. لكن هذا الاستشراف لم يكن نتيجة طابة بلورية يملكها زياد، بل نتيجة لفهمه العميق لجوهر اليمين. اليس في شخصيات الصرّاف ذي الارواح السبعة، و”مصاري” الذي يبرر هوسه بالمال، بما تحويه اللغة اليومية من اشارات الى المال (وهذا اسلوب يحاكي بطرافته وعمقه على حد سواء استقصاءات الكوميدي جورج كارلين اللغوية)، و”خضر” الذي يعمل نجّاراً وطبّالاً وسارق دراجات، اليس في هذا كله ادراك لطفور ثقافة المال؟ اذا كان هذا مجرّد تعبير عن شره متأصّل، فلم لم تبزغ شخصية “مصاري” وغيرها في مسرحيات سابقة؟
الأشخاص في “بخصوص الكرامة” تحركهم نوازع من ضمنها الصدمة التي لم تعالج، وبالتالي من شأنها ان تتواتر وتتضاعف: “حسن” اخوه شهيد، واليائس لا يدرك الفرق بين مكتب الضابط والعيادة النفسية. حربنا، اذن، لم تنته. هي توقفت يوم سقط حائط برلين، وفرط عقد الاتحاد السوفياتي، وتوحدت اليمن، وحدث اتفاق الطائف.هذا يعني ان ثمة جوهرا فينا لم يتغيّر، لأننا لم نستأصل ورماً ولم نفحصه تحت المجهر. الفنان ينتظر بحدسه وذكائه تعديلات جينية لم تحدث، ولا يأبه لعمليات التجميل او لألوان طلاء الاظافر. أية تغييرات هي التي لم ينتبه لها زياد؟ أنيرونا. ما الذي تغيّر في جوهر مشاكلنا منذ عقود؟ أشيروا إلى تغييرات جوهرية كي نقرّ ان الرجل اخفق في الانتباه اليها. اما ان تلخّصوا عمله بأنّه تسمّر، دون الاشارة الى ما تدّعون انه اخفق في رؤيته، فهذا يسهّل على القارئ ان يعزي نقدكم إما الى سذاجة،أو الى ما تقبضونه ثمناً للمقالة.
نحن كلبنانيين، فرصتنا الوحيدة اليوم كي نخرج من بؤرة التلوّث التي تطمرنا الى ما فوق رؤوسنا، هي ان نقبل بتشخيص امراضنا على النحو الذي عرضه زياد. يجب على من يخالفه الرأي ان يقدّم رأياً مغايراً ومفصّلاً بشكل يستحقّ النقاش، عوض ان يعزي ارثه الفني الى مناكفة. هذا العزو هو بدوره تعبير عن “اوديبيتهم” تجاهه: زياد يغدو اباً مطعوناً من قبل أبنائه، لا من اجل ان يستحوذوا على نساء القبيلة فحسب، بل من أجل ان يستأهلوا شيكاً من سلطان أو خدمه.
.. إنهم يهربون من الفصام: يقبضون مالاً من أعداء زياد، وهو لم يزل جزءاً من لغتهم. ذاك أنّ هجاءهم له هو انسجام الضجيج مع الضجيج، لا الموسيقى مع الموسيقى. اين المشكلة؟ المشكلة هي ان ليس بين أعداء زياد ما يستحقّ الشراء – أدبهم ضعيف! يساند زياد النظام السوري في الصراع القائم، فيجيبون بما “رأته عيون أطفال سوريا”، دون اي استنكار لما قامت وتقوم به القوى الظلامية الممولة بسخاء. هذه زجلية مخزية يقترفها من يدّعي انّه يخاف من ان يكون لبنان مجتمعاً زجليّاً. اليمين الغني الذي لم يجنِ ماله بعرقه يستسهل شراء الضعفاء أكاديميّاً وأدبياً على خلاف أغلب أعدائه.
زياد لم يتغيّر. هو هجاكم يوم كنتم شيوعيين، ويهجيكم اليوم. وهو قاطع نظام الأسد يوم كان حلمه بحزبه حياً، ويوم تضاءل الحلم نتيجة زهد أسعار الكثيرين، أصبح “البعث” و”حزب الله”، وهما لا يشابهان زياد ايديولوجياً، الجبهة الوحيدة التي تقاوم امبريالية لا يخالف يسارُها يمينَهابأكثر من تشدّق بحقوق الاجهاض ورفض سهولة شراء السلاح في الداخل الاميركي. لو تعلمون كم ان زياد اقرب الى ما يقوله المثقف الأميركي المستقل الذي يعمل في جامعة خاصّة، ويتحرّك ضمن إطار حرية معين للتعامل مع النصّ وتحليله، المثَقّف الذي لا يكتفي بالجريدة اليومية في مدينته، او بال”سي ان ان”، او “فوكس نيوز” لتشكيل فكرته عن العالم.
ما فتئ الغرب يحتفي ب”إزرا باوند” الذي خان بلاده بمساندته لطرف المحور، وامضى ايامه الاخيرة في مستشفى للامراض العصبية في واشنطن، و”بوالاس ستيفنز” الذي ساند الاستعمار الابيض لأفريقيا، ويدرّس الغرب قصائدهما بكثافة في مناهجه الجامعية. كذلك، أميركا تعشق “توماس جفرسون”(أبا الديمقراطيّة)، عشقاً يحاذي التقديس، وهو كان مالكاً للعبيد ولم يحرّر منهم سوى من كانوا اولاده البيولوجيين من جنس جانبي مع أَمَةٍ مملوكة، وكان “يكرّم” الأسوَد باعتباره خمسة أثمان انسان، اي اكثر من النصف! وما زالت اعمال “مارتين هايدغر”، الذي عمل مع الحزب النازي وكان معادياً للساميّة، تتمتع بنفوذ منقطع النظير في مجموعة واسعة من المجالات الفلسفية اليوم، الظاهرية والوجودية، والبراغماتية وما بعد الحداثة، والتأويل والشعر ، واللاهوت والأخلاق البيئية.
أمّا أنتم فتصبّون غيظاً على زياد، لأنّه لم يزل شيوعياً يرفض ان يتعامل مع منتجين غربيين، او يقيم حفلات في الولايات المتحدة او يصبح ثريّاً. تعاقبون الرجل على اختياره طريقاً وعرة! كما انكم لا تميزون مواقف الرجل السياسية من اعماله الابداعية. عصابكم يدل على أنّكم تدفنون حبّكم له في زوايا ادمغتكم، هذا الحب الذي سينفجر تبجيلاً اذا غيّر الرجل موقفه من سوريا. مثلكم مثل من أغضبها عشيقها، ففضّلت ذهان أنّه بشع على حقيقة أنه لم يزل جميلاً رغم الخلاف. تحطمون المرآة التي تفضحكم. تتهمونه بتمجيد الشمولية التي – كما كتب “فاكلاف هافل” في العام ١٩٨٤ – ليست سوى مرآة محدبة تعكس الحضارة المعاصرة. وان من يعتقدون أن محو مثل هذه الأنظمة عن وجه الأرض سيجعل كل شيء على ما يرام، لا يختلفون عن امرأة قبيحة تحاول التخلص من قبحها بتحطيم المرآة.
إن سبب محدودية شهرة زياد الموسيقيّة عالميّاً هو محض سياسي/تسويقي. لو عاصرتم “فان غوخ” الذي لم يبع سوى لوحة واحدة، لما اعجبتكم اعماله لأنها لم تحظ، في حياته، باحتفاء نقدي وتسويقي. الفرق ان “فان غوخ” كان يتوق الى تسويق اعماله، بينما زياد لم يسْع إلى العالمية اراديّاً ربما – ضمن اسباب اخرى – لأن فيزا الولايات المتحدة تستوجب نكراناً لأيّ انتماء شيوعي. كتاب “الكسندر بيكروفت”(اكولوجيا الادب العالمي) في العام ٢٠١٥، سيذكركم بالعوامل التي تطوّب اي عمل ابداعي عالمياً، العوامل التي لا شأن لها بقيمة العمل نفسه فحسب. لو ان لزياد شهرة عالمية يستحقها، لما تجرأتم على انتقاد أعماله بمقالات وتعليقات لا تستأهل علامة نجاح، لو انها قدمت كفرض سنة اولى في اية كلية اعلام محترمة.
من المستغرب ان الاجندات السياسية (والمعاشات في الدرجة الاولى) اعمت عيونكم عن رؤية ان موسيقى زيادلا تقل تأليفاً وتنفيذاً عن افضل اعمال “جورج غيرشوين” او “دايف بروبيك” او “انطونيو كارلوس جوبيم” (البرازيلي الذي توفي في نيويورك) او غيرهم. موسيقاه لا تتضاءل مع الزمن، كما الموقف الحر من جوهر الاشياء. لم يؤلف لحناً واحداً ضعيفاً من شأننا ان نمل منه اذا تكرر على مسامعنا. سمعنا “هدوء نسبي” في العام ١٩٨٥، ونسمعها اليوم بنفس الاعجاب، وكذلك “ابو علي” و”وحدن” كما كلّ اعماله. من اخطار رأس المال انه يسلب الانسان حرية، ميزتها القدرة على رؤية الأشياء كما هي، دون أقنعة تطويب أوإقصاء تصنعها أغنام موّاءة او ظروف سياسية.
حفلتا بيت الدين الاخيرتان هما إشارة الى ان الرجل ما زال يعيش من موسيقاه وفيها. بينما يداه تعزفان موسيقى لن تموت، كان ظهره المقوّس يعزف لحناً صامتاً عنوانه توحّد الموسيقي مع آلته – هذا هو دأبه فنّه وصدقه. لا يقدّر هذا من يعطي المال والمنصب أولويّة، بل يقدّره الحرّ الذي لا يبيع مبدأً او قناعة بخبز او ترف، وهذا من صنف متضائل وربّما يكون مهدَّداً، ولكنه غير منقرض حتى اللّحظة، لا في الغرب و لا في الشرق.
شاركنا النقاش