دمشق: آمنة ملحم|
ربما لم يكن فيلم “مطر أيلول” لعبد اللطيف عبد الحميد ليترك ذلك الأثر الوجداني لناحية الدلالة، وليس العرض بحد ذاته، لو عرض في زمن صناعته في العام 2010. فحكاياته كانت لتبدو كقصص حب روتينية مع تكرار في اللقطات التي تعكس الحب والتضحية لأجله لأبعد الحدود، ولكن مع جو أضفى عليه أسلوب عبد الحميد شحنة عالية من الرومانسية والحلم وسحر الأمل الذي لا يموت، وذلك بدعم عال من الموسيقى التصويرية التي شكلت بطولة بحد ذاتها في الفيلم.
“مطر أيلول” الذي حظي بعرض يتيم في “مهرجان دمشق السينمائي” الأخير الذي شهدته البلاد في العام 2010، أعادته اليوم مؤسسة “أحفاد عشتار” في ناديها السينمائي الى الذاكرة بعرض خاص طلبه المخرج من منتجي العمل “قناة أوربت”، التي حال سفر مالكيها خارج البلاد دون عرضه جماهيريا.
بدا الفيلم اليوم بحلة جديدة. فمع مرور سنوات عدة على تصويره، لم تبدُ الفكرة قديمة كما كان يتخوف مخرجه من وصفها كذلك في تقديمه للعرض، بل على العكس حمّل الوضع الراهن الفيلم معانٍ جديدة، فبدا فيه الأب (ايمن زيدان) أكثر نضجا وأعمق دورا تجاه أبنائه الشبان الستة، الذين فقدوا الأم ليكملوا حياتهم بحب شق كل منهم طريقه باتجاهه مكرسا حياته له، هذه الصورة التي تفتقدها ليست السينما فقط بل الأسرة السورية اليوم ككل. فاجتماع أولئك الشبان في بيت واحد ليكون الحب أكبر همومهم، هي صورة لم تعد حاضرة في حياة المجتمع السوري، بل باتت حلما قضت عليه الحرب مع ابتلاعها لحياة شبان باعداد كبيرة في ظل غياب قاس لآباء، في اطار يطغى على المشهد العام.
الأب الذي يصب كل اهتمامه على أبنائه الستة لاعباً دور الأم والاب معا، محافظا على جو حميمي معهم، يصل الى حد الصحبة مع ابنه وليد (حازم زيدان)، ورفقة عمل مع ابنه زياد (يامن الحجلي)، وجو شاعري يضفيه أبناؤه الأربعة الذين امتهنوا العزف في المطاعم، مع اجتماعهم خلال خطبة أربع شقيقات، في جو اضفوا عليه المرح ونفحات من الكوميديا، وهي سمة المشاهد التي تجمعهم في الفيلم. ويبقى للأب فسحة خاصة عبر حب يتبادله مع الخادمة فدوى (سمر سامي) التي يقتصر عملها في منزله على يوم واحد أسبوعيا.
الحب لم يكن سبيله سهلا مع سيادة قانون الغاب، فهنا القوي يأكل الضعيف. وهذه المقولة الأكثر فعالية في الفيلم والتي جعلت منه جرس انذار ينبه بعواقب العيش وفق هذا القانون الهمجي، وما قد يجره من مصائب وعواقب وخيمة. وقد عرج عليه عبد الحميد عبر لجنة نافذة للكشف عن الأشجار بقيادة طارق (قاسم ملحو) الذي لا يمر اصطدام الأب معه في إحدى المرات مرور الكرام أبدا، فسلطته تنعكس على مفاصل الحدوتة لتقلبها رأسا على عقب.
الرمزية حضرت في “مطر أيلول” بمشاهد عدة زادت من دلالته وقوة فكرته. فلم يكن مشهد مشاهدة الأب شريطا تلفزيونيا تلاحق فيه اللبوة حمار الوحش لتلتهمه بشراسة مشهدا عابراً، بل جاء مختصراً وممهداً لما سيمر به الأب وعائلته الرومانسية عندما يطاردها الأقوى “طارق” الذي يلعب دور تلك اللبوة. فمشهد الحب الرومانسي الصباحي الذي يتكرر يومياً مع “وليد” بغسله لسيارة حبيبته الحمراء الفارهة تحول لمأساة، بعد اعتراف المرأة الثرية لوليد بحبها قبل أن تتحول الى جثة بلحظة. هنا بدأ مسار الحكاية يأخذ منحى آخرا بعد سلسلة مشاهد رومانسية حالمة خاضها الشبان الستة ووالدهم أيضا، لنرى “زياد” الحالم بالحب الذي يقطع يوميا مسافات كبيرة تدمي قدميه ركضا ليسلم وردة حمراء لحبيبته يتحول برمزية سينمائية لكهل يكسي الشيب شعره، عندما يغلق شباك حبيبته بوجهه مختوما عاكسا لهجرتها المنزل.
لحظات ألم تلو الأخرى تمر بها شخوص الفيلم، كان أكثرها قسوة مشهد انتحار “وليد” حزنا على حبيبته، قبل أن ينكشف القناع عن سارق أحلامهم، مع بارقة أمل تعود الى الواجهة بوجود من يقفون بوجه القوي مهما بلغت قوته. فمحاولة “طارق” هذه المرة سلب الأبناء الموسيقيين لقمة عيشهم باءت بالفشل مع إصرار صاحب المطعم على بقائهم، دون الاكتراث لتعليمات طارق. وتبقى لغة الحب السائدة بأيدي من زرعها بتربة خصبة، ومن حمل الأمل زوادة ليكمل به الدرب مهما اشتد الظلم .
أداء الفنانين بدا ناضجا في الفيلم، فأيمن زيدان يزيد الزمن والخبرة في اتقانه الادوار لتبقى اعماله مغروسة في الذاكرة. كما بدا أداء يامن الحجلي وحازم زيدان عالي المسؤولية ومتميزا، رغم أن هذا الفيلم هو من تجاربهم الفنية الأولى. وأضفت الفنانة سمر سامي جوا شاعريا على الحدوتة بحضورها الأنثوي المليء باللهفة والحب. فلا يمكن القول سوى أن عبد الحميد أحسن إدارة دفة الممثل وانتقاء الشخوص في امكنتها الصحيحة.
ولكن، لم يكن للمشهد الافتتاحي الذي استعاد عازف البزق محمود عبد الكريم، الذي كان يبدأ بث “إذاعة دمشق” بموسيقاه في الساعة السادسة صباحا من كل يوم في الأربعينيات، أي رابط مع حكاية الفيلم وشخوصه، فبدا زائدا ومحيرا لمعنى وجوده في الفيلم.
شاركنا النقاش