[sam_zone id=1]

دمشق: آمنة ملحم|

من خلال نماذج انسانية مستمدة تفاصيلها من الواقع، يطل أبطال مسلسل “مسافة أمان” (تأليف ايمان السعيد، واخراج الليث حجو، انتاج “ايمار الشام”) على الشاشة كمرآة لحالنا، في أدوار تتقاطع كلها عند البحث عن ملجأ للروح، وسط أكوام من الدمار الإنساني والمجتمعي والأخلاقي الذي ألم بالجميع، رغم الانتماء لطبقات اجتماعية مختلفة يتطرق لها العمل بالشكل والمضمون، وكأنهم يتوحدون للقول بأن الخسارة جماعية دون استثناء.

هكذا يتفرع العمل بحكاياه متوغلا بالتفاصيل التي تحرك الشخوص، وفق صراع متصاعد من البداية باتجاه النهاية، وبتأن تفرضه طبيعة الشخصيات المطروحة، حيث يدخل العمل للعالم الداخلي لكل شخصية مدغدغا عواطفها وانفعالاتها ومحاولات تمردها، ليكون الصمت مسيطرا على عدد من المشاهد الفعالة في العمل، ولينطق وجه الممثل أكثر مما قد يبوح به عبر الكلام.

هكذا بدت شخصيات “مسافة أمان” منضبطة لأبعد حد، وفق الإطار المكاني والزماني المتلون تبعا للحدث، لنجد اشتغالا كبيرا على الأداء المقنع المنطلق من أدوات الممثل، والموجه بإدارة مخرج يعرف كيف يظهر صفات الشخصية في الممثل، وليس صفات الممثل في الشخصية، لتأتي مقنعة مؤثرة مترافقة مع حوارات تلعب على وتر الوجدانية، صانعةً التأثير بالقول أكثر من الفعل أحيانا. اذ يغيب عن الحبكة إجمالا نمط الأحداث المتسارعة نحو الذروات، فلا ذروات واضحة ضمن إطار الأحداث، بل يبقى الصراع وفق ما ذكرنا متصاعدا ببطء، تسعفه الحوارات المكثفة واغراق الممثلين في تبني الشخوص التي يؤدونها، مع صوت الراوية الذي يعود للفنانة شكران مرتجى لاعبةً في ادائها على وتر العاطفة، مثيرة أسئلة تدعو للتأمل والتفكير.

شخوص كثيرة ببطولة جماعية تدور أحداث العمل في فلكها، ولكن للحضور النسائي مكان واضح عبر شخصيات رئيسية: “سراب – سلام – نهاد – نور – صبا”، و”أم مروان” نموذج الأم التي أثخنت الاوجاع قلبها .. هن نساء من هذا الزمن .. نساء مفجوعات بألم الفراق.. ألم الغياب.. ألم الحرمان .. وألم القلق .. هن نساء عشن فترات الحرب فاصطدمن بخراب ما بعدها، وحيدات، تحبسن أوجاعهن وأحيانا تطلقن العنان لأرواحهن فتتمردن، لتلتقين جميعا على خط الامومة الحاضرة أو البحث عنها.

سلافة معمار

هذه النماذج الإنسانية النسائية بدت بين أيدي الممثلات سلافة معمار، كاريس بشار، ندين تحسين بك، هيا مرعشلي، حلا رجب، ووفاء موصللي حقيقية، دون مبالغة في الانفعالات أو الاستسلام للحوار، بل لكل منهن أدواتها التي طوعتها لخدمة الشخصية، مع المبارزات الحوارية المنطقية، حيث الجمل قصيرة والكلمات موجزة وسريعة الايقاع.

وبالحديث عن حضور “أم نهاد” (سوسن ابو عفار ) المصابة بالالزهايمر نجد فيه تكريسا لفكرة الذاكرة التي قد تزول لتمحو معها كل آهات الحياة وافراحها على حد سواء، بأداء حيوي صادق ملازم للشخصية.

هذا عدا عن تطرق العمل لقضايا الشباب ما بعد الحرب وردات فعلهم، بأسلوب يحمل نمط التوعية، وتسليط الضوء على ضرورة الالتفات للجيل الجديد الذي تربى على أنقاض الحرب، عبر شخصية “كنان” (بلال الحموي)، وتمرد الجيل عبر شخصية “روان” (لين غرة)، وضياع المستقبل في رحلة البحث عن منافذ للحياة ومتنفس ربما للحب عبر شخصية “مروان” (ايهاب شعبان) المسرحي الذي أتعبته الخيبات، ليشكل في كثير من مشاهده مع الفنانة سلافة معمار ثنائية بتوازن درامي مدروس .

وفي شخصية والد “نور” (جرجس جبارة) نتلمس دورا يعد الأكثر إنصافا له فنيا، فرغم أن العمل اكسبه عددا من السنوات المضافة لعمره، الا انه يتقمص الدور حد الالتصاق كأب متزن ورجل راجح.

ويعيش الفنان عبد المنعم عمايري مزايا الرجل الأناني بإتقان، بينما يتفرد الفنان قيس الشيخ نجيب بشخصية المصور “يوسف” التي عاد معها ليقدم دورا مختلفا عما ألفناه فيه. وفي شخصية “يوسف” عوالم كثيرة، لعل أبرزها نقطة تحوله بعد وعيه لما اصطدم به بعد الحرب من تصوير “الموديل” وكماليات الحياة نحو الانغماس بالحالات الإنسانية التي عرتها الحرب. ومع شخصيته اكتسب العمل صورا توثيقية حقيقية للحرب وتبعاتها بهاجس انساني بحت، واختارها حجو مع المصور الصحافي السوري عمر صناديقي من أرشيفه، لتشكل إضافة حقيقية للعمل وتزيد من ملامسته للواقع.

وفي المقابل، حضر في العمل نماذج بشرية خلقت مع الحرب وزادت من غصاتها، كشخصية المحامي الوصولي (حسين عباس)، وشخصية الممرض (كرم الشعراني) الذي يستغل عمله للمتاجرة بالاعضاء البشرية.

وللمكان في “مسافة أمان” بطولة يحتلها ما بين المشهد والآخر، فتدخل كاميرته بانسيابية وتفاصيل دقيقة إلى العشوائيات، وتتنقل بين السكن المتوسط والفاره، وعوالم المستشفيات، وأروقة المحاكم، مرورا بالتواصل من خلف شاشات “اللابتوب” بين البلاد، بانتظار فرج لم الشمل، وكل ما له صلة بحياة ما بعد الحرب وفقا لتراتبية الاحداث.

وكعادته، يحرص المخرج حجو على توزيع البطولات بين نجوم الدراما، ومعه يكسب المشهد الدرامي حضور وجوه شابة تحمل الألق بإدارته لها. وهنا نشهد حضورا متوازنا لكل من ايهاب شعبان، وبلال الحموي، لنجد الفنانة هيا مرعشلي تتلمس البطولة بصقل واضح لأدواتها.
كما جاءت شارة العمل بصوت اياد الريماوي ولينا شماميان لتضيف نجاحا آخرا له.

“مسافة أمان” يعرض عبر LBCI وLDC و”لنا”.

 

في هذا المقال

شاركنا النقاش