دمشق: حازم آصف عبدالله|
ذيل المخرج والكاتب سامر محمد اسماعيل بروشور عرضه المسرحي ” كاستينغ ” بمقولة ابن حزم الاندلسي (المثل إلى مثله ساكن) ممهدا لحكايته. هناك على الخشبة، بعريها ولبوسها، تسامركم شخوص روحه حيث المسرح باختصار شرط وفعل ودهشة ليكتمل المشهد باكتمال حلقة التطهير. المقاعد ممتلئة حد الثمالة بضحكات ومهمات وحتى في لحظات ما بكاء حفيف بهمسات لاسعة….كلنا لنا مكان هناك على تلك الخشبة بذات الحكاية، بل ربما حكايانا.
سأخالف في مقالي هذا قواعد النقد التقليدي ابتداءً من عدم احقيتي بالكتابة لعرض، انا أساسا ربما متورط به، وربما كنت طرفا في تشكيل خواتيمه، ولكن صراحة لم يسمح لي سامر باختراق بواباته- بوابة العرض النهائية حتى كان تقريبا قد انتهى من مبناه ومعناه، واتصل بي ليوقعني بفخه، حيث أقل ما يمكن قوله إنه كان فخاً جميلا .
وصلت إلى باب القباني بعد جلسة ليست بالقصيرة انا وسامر، حيث كنا نعمل سوية على تعديل مواد فلمية وسينمائية وتلوين مواد أخرى. ودون أن يخبرني بشي مطلقا، تركني ادخل بروفة نهائية تقريبا وانا محمل بكوني كائن مندهش . اوقعني ببراثن (خديعته – العرض) جلست قرابة الساعة من الزمن منسدلا على كرسي الصالة القاسي حتى اندمجت به تدريجيا، وتسمرت عيناي بانتظار الدقيقة تلو الدقيقة، وما ان انتهت الدقائق الخمس والستون، طبعا بعد بضع ونيف من الساعات قبل البروفة من تحضيرات متسارعة، وسامر مهجوس بتفاصيل التفاصيل، ما يقال وما لا يقال، خمس وستون من الدقائق القاتلة بحلوها ومرها.
عن النص والرؤية-الحكاية والعرض
ابتداءً من رنين الهاتف أول لقطة بالعرض التي هي بذاتها آخر لقطة بالمواد السينمائية المقطعة من نخبة فلمية سينمائية تلخص تاريخا بأكمله، لتتحول امتدادا لحكاية المخرج المهجوس بفيلمه وتجارب اختيار الممثلين وتوتره من خلال تجربة أداء لفتاة قادمة من عالمها البسيط، محملة بحلم الوصول، لتروي لنا هي الأخرى حكايتها.. لنصبح بحكاية داخل حكاية داخل حكاية ..عرض داخل عرض، وكله مغلف بعرض سينمائي يلف جدران المسرح الثلاث بابيضاض بديع. فالجدران العارية البيضاء تحولت لشاشة سينمائية ثلاثية الابعاد تحتوي جمال وتشوهات الحكايا السينمائية على المسرح بمشهدية عالية .
متاهة من الحكايا كمحاكاة الواقع الذي نعيش، حكاية جهاد المخرج الباحث عن نجوم عرضه (الفنان عامر علي ) الذي لم يترك مجالا ولو لثانية واحدة للشخصية (جهاد -جو ) كي تسقط دون وجوده الأعلى فوق الشخصية، يتلاعب بها كما الماريونت بهدوء المحترف، عاشها وتعايش معها، بناها لبنة لبنة، وقادها وقادنا نحو ذروة حرصا عليها هو والمخرج الكاتب سامر إسماعيل ، لتكون الذروة الفخ.. منقلب العرض ومبناه، وقلما نرى بناء لشخصية مسرحية بهذا التصاعد الناعم الهادىء الذي يصعد بنا تدريجيا، نضحك معه ونبني على رؤياه حتى منقلب البكاء حيث يعريا (عامر- سامر) روح الشخصية ( جهاد – جو ) لنرى قمصاننا الذائبة فيه وأحلامنا الميتة. ومنه لحكاية جوليا (الفنانه دلع نادر) مع خطيبها الهارب والمجتمع الغادر والأحلام المسفوكة على أرض النبيذ والدم، حيث كل شيء دموي.
(دلع ) هي الأخرى كانت مفاجأة تماما كما كان العرض، تحكمها بتنقلات الشخصية (جوليا ) كان أكثر من مفاجىء وخاصة كونها خريجة جديدة استطاعت التنقل بين عوالم الشخصيات، وحاكت قصص ( جهاد وجو والتاجر المغتصب ومتحرشي تجارب الأداء ).. بتصاعد غير مسبوق حتى لحظات (الاوفر) المقصود ليسقط المتلقي في فخ خديعة المخرج حتى لحظة خلع الستائر البيضاء ودخول الزوجة (الفنانه مجد نعيم ) التي كانت هي مكاشفة العرض الأخيرة، حيث ستكتشف انك خضعت للعبة الشرط والتطهير، وأن الذرى التي عشناها خلال دقائق العرض ما كانت سوى تصاعدات بسيطة لهذه الذروة .هو جهاد وليس جو، وليس هناك من جوليا، وكل ما رأيناه كان صنيعة مخيلة مريض بانشقاق الهوية الفصامي، حيث أن كلية الرؤية هنا جاءت كلاما عاقلا حكيما بلسان المجنون، ومن هو أعقل من مجنون لا يخاف الحقيقة .
وهنا اكتملت حلقة الحكايا لنرى الحكاية الإطار، وهي ذي ( الفنانة مجد نعيم ) الزوجة تلملم أغراض المنزل وتجبره على خلع قمصانه حتى يبقى على بياض (عريه) رافضا تناول دوائه حيث يبصق حبة الدواء، مصرا على أن الحلم أعلى من الواقع (إخضاع الجمهور لآلية التطهير وضرورة استمرارية اللعبة بشرطها المسرحي ) يجبرنا على استمرار حلمنا معه.. ليقف بانتظار التصفيق لجائزة نحلم بها كلنا (حيث لكل منا حلم وهدف).
عن الديكور والإضاءة والسينما
تقصدت أن لا أقول سينوغراف، فالتداخل مع عوالم السينما والتقطيع البصري استحق تخصيص المخصص وتجزئة الحديث .
طيلة العرض كان الديكور باكسسواراته واغراضه بطلا مثل ابطال العمل عامر ودلع ومجد .. وكيف لا وانت مبهور بجدران بيضاء ناعمة وعواكس الاستديو ومايكاته، وتذوي تدريجيا في فخ المخرج (سامر) و الاستديو الصغير مكان الكاستينغ، حيث لا تكشف اللعبة حتى تخرج الجدران عن صمتها لتخلع قميصها الابيض وتعري البيت كما تعرى جهاد ليظهرا لنا بلحظة ما حقيقة الحكاية.
ولكن كيف تعري الجدران نفسها؟ حقيقة الحلول السينوغرافية للتلاعب بجدران من الستائر المشدودة التي أخفت خلفها ديكور منزل المخرج الحقيقي كانت حلولا نوعية، إذ تنشدّ الجدران بشكل مفاجىء مع دخول الزوجة نحو الأعلى وتختفي تماما كاشفة المنزل بجدرانه الحقيقة لتكسر الوهم الأول وتسقطنا في لعنة الحكاية، هذه غرفة بمنزل اعتيادي وليست استديو، هي جدران منزل ممتلئة بالصور والافيشات والبروشورات لعوالم حلم جهاد هو ذاته المنزل القابع في حي حتى نوافذه معلقة على جدران الجيران، والعاكس ما هو إلا حماية من أشعة الشمس لنوافذ السيارة، والميكروفون هو الممسحة وكف الفرن هو (الميكروفون البوم).
كل شيء هنا يخدم الحكاية ويصعد بصعودها ويهبط معها …
الجدران كانت مرآة لعقل جهاد من القيامة الآن.. وجدار بينك فلويد .. قطار منتصف الليل ودموية القتل والزنزانه.. حتى هيتشكوك بمجانينه وبازوليني بوحشيته وانتهاء سينما براديسو انهيار مسرحها وكل القبلات السينمائية على تلونها كل ذلك لم يكن تمهيدا للرؤية بقدر ما كان مكملا لقميص البطل وعوالمه… حتى اللون الاحمر الذي غطى الجدران والتلاعب اللوني بمشهد روكسان من مولان روج (الطاحونة الحمراء) على مشهد الاغتصاب، كله كان كلية متممة.
الاقنعة
ربما للحظة تعبر الأقنعة بأي عرض دون التدقيق بها بعمق وتفصيل.. الاقنعة هنا كانت تداخلا بين رؤى (سامر وعامر ) وتغيرت على مدار البروفات ثلاث مرات حتى اختيرت بشكلها الأخير .
القناع الاول لشخصية جهاد كان قناع فينديتا (الانتقام- باللاتينة) الذي يجهل كثيرون بانه القناع المستخدم في اشهر تمرد ومحاولة اغتيال وتفجير مجلس اللوردات البريطاني 1605 م، التي قام بها جاي فوكس مرتديا ذات القناع، واستخدم القناع ايضا بعدة اعمال سينمائية وتلفزيونية مثل فيلم في فور فيندينا، وسلسلة لاكاسا دي بابل ..
القناع يرمز للانتقام التمرد والجنون . حتى سلفادور دالي قارب شكل وجهه لذات قناع فوكس، مما زاد في تأكيد رمزية القناع بالشاربين الناعمين الطويلين والعيون الجاحظة. دالي رمزا للجنون واللعب هو الآخر حاضر بقوة بشخصية جهاد ( عامر) الفنان الحالم وهواجسه واضطراباته.
أما القناع الثاني فهو قناع من سلسلة رعب هوليوودية شهيرة، هو قناع جيسون السفاح القاتل الضطرب .
وتعمد التيمة السينمائية على لسان الشخصية الرئيسة كان محورا اساسيا باستخدام الاقنعة ودلالاتها، فيكون بذلك –المخرج- قد أوقعنا جميعا بين عالمي المسرح والسينما، مستخدما كل أدواتهما ليصنع فرجة بديعة تستحق التذكر كيفما حضرت .
- مسرحية كاستينغ “تجربة أداء” .. على خشبة مسرح القباني للكاتب والمخرج سامر محمد اسماعيل.
شاركنا النقاش