فاتن قبيسي|
يتناول مسلسل “اسود” (كتابة كلوديا مرشليان، اخراج سمير حبشي، انتاج “ايغل فيلمز”) الذي يعرض عبر “lbci”، قضية البيدوفيليا (التحرش بالاطفال). قضية هامة وخطيرة، لن ندخل هنا في صلب مناقشتها واستقراء العمل بالاجمال، الا بعد انتهاء العرض واكتمال الصورة.
ما نريد ان نتناوله هنا هو ان ركيزة العمل حتى اليوم، تتمثل بأداء ثنائي لافت: اولا الفنانة ورد الخال. تثبت مع توالي الحلقات قدرة استثنائية على محاكاة الشخصية الاصعب: المرأة التي تتحرش بالاطفال. وهو ربما الدور الاول من نوعه في الدراما العربية. جرت العادة على ان يكون المتحرش ذكرا. تركيبة معقدة وذات عمق وابعاد عرفت الخال كيف تظهّرها. دور غير مسبوق يستدعي توظيف امكانات كبيرة من داخل الممثل وخارجه. اي بتعبيرات الوجه والجسد. ظهرت الخال كامرأة تفجر عقدتها الطفولية (تعرضت في منزلها للتحرش) وحقدها على المحيطين. تدمّر نفسها وغيرها في حركة انقلابية مستمرة. لا تهدأ ولا تستكين. الانتقام للذات ومنها في آن حالة لا تتوقف. ضحاياها هم الاقربون، ابنتها وصهرها التي أغرته، وزوجها… وكذلك البعيدون من الاطفال او الشباب المراهق.
شخصية مهزوزة جسدتها بثبات، أداء متماسك مرتكز على فهم خطورة الشخصية. وقد انتقلت من التحرش الى التحريض على القتل بدم بارد. لا شيء يثير عاطفة امرأة طفولتها مدمرة. ونجحت جدا في اقناعنا بتقديم شخصية مفعمة بالسلبية، مجردة من الحب، مؤذية، متمردة، محتالة وتخطط بدهاء.
نقول ذلك، كمن يعيد اكتشاف ورد الخال من جديد. وهذا الامر لا يُحصر بهذا العمل الرمضاني، فقد اعدنا اكتشافها قبل ذلك من خلال “ثورة الفلاحين”. فوجئنا يومها بأداء طاغِ. مذاك بدأت الخال تفجر قدراتها بطريقة استثنائية. وهي مكنونات لم يحسن المخرجون استثمارها لسنوات طويلة. كانت الممثلة اللبنانية تنتقل بين ادوار لا تستغل كل ما لديها. عرفناها غالبا بشخصيات تقليدية لا تستفز الممثل. ربما كان ما يعرض عليها يظلمها. وربما كانت هي “تجود من الموجود”.
ما نود قوله اليوم، هو ان ورد الخال باتت رقما صعبا في الدراما اللبنانية.
ثانيا: باسم مغنية ( يقوم بدور “اسود”). ربما ينطبق عليه بعض ما ورد اعلاه. فرصه في التميز ايضا بدأت في العام الماضي مع مسلسل “تانغو”. اثار انتباهنا بشكل ملحوظ، في وقت كان يعرض له بالتوازي مسلسل “كل الحب كل الغرام” عبر شخصية باهتة لا تليق بخبرته. “تانغو” كان صفارة الانطلاق نحو أدوار احترافية بامتياز. بعده أجاد مغنية في “ثورة الفلاحين” بدور الشرير، نابشا في داخله النقاط المضيئة في الأداء والتعبير. وهو اليوم يكمل مسيرة الادوار الصعبة. يقدم شخصية “اسود” المعقّد ايضا والساعي للانتقام، على غرار “مارغو” (ورد الخال)، ولكن كل على طريقته. يحوّل اوجاعه الى فعل ثأر، ولكن من دون ان يفقد عواطفه. بل انه يعشق ويضعف في عز انتقامه. ويحنّ على الاطفال ويرعاهم في عز وجعه. طفولته المدمرة زرعت فيه القسوة والرأفة في آن، الغضب واللين. ولكن بملامح قاسية، تعلوها المرارة.
يدخل مغنية احيانا في “مونولوجات” مع الطفل داخله. يحاوره، يثير دمعته، يهادنه حينا ويتحداه حينا آخر. يحاول التحرر من صورته كطفل ضعيف. تطارده الصورة فيحاول طردها، تغزو مخيلته مع شعور بالذنب ازاء وفاة والدته. فهو كمن يسعى بشكل لاوعِ نحو الشفاء. بخلاف “مارغو” التي لم يترك لها ماضيها ثغرة تنفد منها نحو الضوء.
وهنا الفرق في تناول التداعيات النفسية لقضية البيدوفيليا: “مارغو” و”اسود”.. ضحيتان تعرضا في طفولتهما للتحرش الجنسي، احدهما يمارس في كبره الفعل ذاته مع اطفال آخرين، والثاني يحضن الأطفال ويحميهم من مصير مؤلم.. آل اليه يوما.
شاركنا النقاش