[sam_zone id=1]

دمشق: آمنة ملحم|

ليس من السهل بمكان أن تمشي الإنسانية بموازاة ما لايمكن أن يلتقي معها كعالم الجريمة، الأمر يتطلب حنكة عالية في الكتابة وخبرة في تقاسم الحدود ما بين التعاطف والإدانة، وهذا ما استطاع فعله الكاتب بلال شحادات في مسلسل “شتي يا بيروت” (الصباح اخوان” ).

في حديث سابق مع شحادات أكد أن العبرة من العمل سنجدها في النهايات، فلم تكن فقط عبرة بل كانت نهاية غير متوقعة، إذ لم نشهد انقلابا غير مقبول في طبيعة الشخصيات كالعادة أو حالة فرح لأناس كانوا مروا بكافة أشكال الدمار النفسي، بل ان النهاية بقيت منطقية، حيث ان الانتقام طغا على عقول الشخصيات لآخر لحظة ولم يليّن قلبهم كل صور الإنسانية التي مرت أمام أعينهم.

هي حكاية انتقام مريرة أكلت الأخضر واليابس، ورغم أن موضوع الانتقام وسطوة التفكير بالثروات يبدو للوهلة الأولى موضوع غير مغري للمتابعة، إلا أن الوصفة هنا التي لون أطباقها الكاتب شحادات جاءت مخبوزة على نار هادئة فتمتعت بالإتقان والتشويق، وامتزجت ألوانها بأطياف الحياة، فجاءت مقاربة للواقع في معظم تفاصيلها.

نعم انها ملامسة واضحة للواقعين السوري واللبناني في ظل الأزمات المتعاقبة التي مر بها البلدان، فأنت هنا ترى “تهريب” الأشخاص بين البلدين، حالها كحال الخبز اليومي، وجبة رئيسية يعرفها القاصي والداني، كما أن حياة “التعتير” التي تمر بها معظم الشخوص في الأحياء العشوائية حقيقية للصميم، وقد استطاعت بسبب اشتداد الفقر أن تحول الممرضة “نور” (زينة مكي) لفتاة ليل ضمن شبكة تتخذ من الأمر مهنة تعتاش عليها عدد من الفتيات القادمات من القاع المحفوف بظروف متهاوية، بينما تجد أخت نور “أماني” (إلسا زغيب) تواجه ذلك التعتير وتعنيف الزوج المتواصل بالبكاء فقط، فلا حيلة لها ولا قوة.

ذلك التناقض الذي عكسه العمل جاء واقعياً بشدة، مع التركيز العالي على علاقات الأخوة التي جمعت بين (إلسا زغيب وزينة مكي) من جهة كعلاقة وطيدة جدا، يقابلها علاقة أخوية زعزعها الانتقام (عابد فهد وإيهاب شعبان) وبقيت على خط النار لآخر الحلقات. بينما حملت علاقة الأخوين (رامز الأسود ولين غرة) نموذجاً مربكا، فكلاهما حملا الانتقام منطلقاً لحياتهما، ولكن غاياتهما كانت مختلفة تماماً، حيث ان “مناع ” (رامز أسود) جشع ومستغل، بينما بدت “يم” مغلوبة بعواطفها في أغلب الأوقات حتى نهاية المطاف التي أودى بها الى الانتحار.

العمل جاء جادا في الطرح، وهذا ما افتقدته احيانا الدراما المشتركة سابقاً، كما أن اختيار الأبطال جاء مدروسا، فأغلب الشخصيات كانت بمكانها الصحيح، فعابد فهد كان جوكر في رسم  ملامح القوة والضعف، الشدة واللين، وتفوق في رسم ملامح الأبوة بالعطاء الذي لا ينضب مع “أيوب” (حسن مرعي) الأمر الذي لم نره كثيراً في الدراما سابقا، حيث كان يغلب على هذا النمط من العلاقات وجود الأم ودورها الرئيسي في حياة الابن، لا سيما إن كان من ذوي الاحتياجات الخاصة. ولكن إتقان إدارة الطفل في أدائه، وكذلك أسلوب التعاطي معه من قبل الفنان عابد فهد و”بيسان” (إيناس زريق)  قدما علاقة إنسانية صادقة، فكان فهد وزريق بمثابة أهل في الواقع وليس كممثلين على الشاشة، وهذا يحسب لهما نظرا لإتقانهما العالي لكل لحظة إنسانية عفوية جمعتهما بالطفل الذي ترك أثراً في كل مشهد ظهر فيه.

الصورة في العمل جاءت احترافية، والجهد المبذول في الإخراج من المخرج إيلي السمعان واضحاً، فكانت المشاهد لا سيما في الحلقات الأولى من العمل جذابة ومشغولة بإتقان، وثمة تنقل سريع بين المشاهد التي حملت تشويقا عاليا، إلا أن ارتباكا واضحاً بدا في التنقل بين المشاهد في منتصف العمل، مع أخطاء إخراجية عدة كادت تفقده بعضا من وهجه، خاصة في الحلقة “١٧” التي اختطلت فيها المشاهد الليلية مع النهارية التي ظهرت في آن واحد، لكنها عادت لمسارها الصحيح في الثلث الأخير من العمل متداركة تلك الأخطاء، وبقي العمل محافظا على “ريتم” عالٍ من الجذب، مع استمرار الأحداث الجديدة التي لم تتوقف في الحكاية بذروات واضحة وحبكة متينة أنقذت الموقف، لتأتي الحلقات الأخيرة متوهجة كما الأولى، وينجح العمل بإيصال رسائله تجاه نهاية وخيمة لممتهني التهريب، والمتمسكين بالانتقام لآخر نفس.

مشاهد عدة من العمل شكلت محطات عالية التأثير فيه كان بطلها “أيوب” (عابد فهد) وأبوته، وكذلك “مريم” (ديمة بياعة) التي حلت ضيفة في بداية العمل، لكن تأثير حضورها ظل طازجاً طيلة العمل. ولا يغيب عن البال حضور “أم مناع” (أمانة والي) التي جسدت الأمومة المجروحة بانتقام الأبناء وفقدان الزوج والابنة ليكون مشهدها في وداع “يم” من أهم مشاهدها في العمل، فحضرت فيه بكل جوارح الأمومة وصدقها وإتقانها الدور لأبعد حد.

العمل (يعرض عبر “شاهد”) حمل عوامل نجاح عدة، وحتى شارته جاءت بمثابة تلخيص لرحلته كاملة، فجاءت موفقة، وخير رفيق له على مدار ثلاثين حلقة، حيث حملت معاني الإنسانية وكل ما يمكن أن يحفها من غدر وانتقام وخيانة: “فالدني ما بتصاحب حدا قلبو قلب عصفور “.

في هذا المقال

شاركنا النقاش