[sam_zone id=1]

سامر محمد إسماعيل|

كأن حياته التي قاربت قرن من الزمن كانت أقصر من الأغاني التي كتبها ورددها فوق مسارح العالم، والتي سيبقى صداها على مر الاجيال بعد رحيله امس الاول.

شارل أزنافور الذي حالف الحظ أبويه فنجيا من المذبحة الأرمنية 1914 نحو باريس، المكان الذي شهد أول صرخة لمغني القرن العشرين في 22 من أيار (مايو) العام 1924. هكذا عاش الطفل بعيداً عن جبل آرارات، لكنه بقي في وجدانه نفخاتُ صدور أسلافه على ثقوب آلة الدودوك، الآلة الشعبية التي يصنعها الأرمن من خشب المشمش، ثم يدفنونها في التراب وقد وضعوا سكراً على مكان الثقوب التي يخرج منها الصوت، فيتركوا للنمل الذي يتجمع عليها تحت الأرض مهمة فتح هذه الثقوب بعد قضمه للسكر الذائب.

نمل أرمينيا الموسيقي فعل فعله في شجرة المشمش التي استظل بها المغني الأكثر شهرةً وإنتاجاً، حيث باع الملايين من أسطواناته، وذاعت شهرته عبر الأغنية التي أعاد أزنافور إحياءها في الحياة الفرنسية المعاصرة، أو ما يطلق عليها الأغنية- النص، الأغنية التي تنهل من القصائد والتي استطاع ازنافور إنعاشها مع جاك بريل وإيديت بياف. هذه الأخيرة كانا قد غنيا معها أيضاً، صاعدين جنباً إلى جنب مع وجودية سارتر وأفكار سيمون دوبوفوار، ممهدين لقيم ثورة الطلاب في العام 1968.

هكذا انتزع أزنافور احترام السميعة ليس في فرنسا والعالم الفرانكوفوني وحده، بل في كل أقطاب العالم، حيث كانت أناشيده وأغانيه ملهمةً لملايين العشاق حول الكوكب، رجل يغني باستمرار وحتى الثواني الأخيرة من حياته، كانت حنجرته وشفتاه الدقيقتان تنشدان بلا انقطاع عن “نساءٍ يصرخن في الظلام من ألم الحب” عن “رجالٍ في المطر تحت نوافذ حبيباتهن”.. مفردات لطالما جعلت من هذا “الرجل العصفور” ما يشبه علامة فارقة في فن الأغنية التي تبقى في الرأس، أغنية اعتمدت في شاعريتها أسلوب “الريشاتاتيف”- الكلام المغنى دون إيقاع، أغنية تهمس في ليل العالم عن المدن التي لا يكون فيها سوى الحب خبزاً للجائعين والساهرين على مائدةٍ واحدة، لا عنصرية فيها ولا قهر للشعوب، فليس غريباً أن يكون موقف أزنافور مع الثورة الجزائرية ضد بلاده، حيث لا يتم تجزئة الوعي ولا الأخلاق، وحيث صوت هذا المغني الرومانتيكي وقف مع قضية بلاده الأم ضد المذبحة التي ارتكبها آل عثمان بأبناء جلدته.

“فرانك سيناترا فرنسا” كما أطلق عليه الفرنسيون ظل عصياً على الانصياع لثقافة أغنية- الوجبات السريعة، إذ ظل يحمل قناعاته عبر ما يقارب ألف ومائتي أغنية قام بأدائها وكتب العديد منها، ليتربع بقوة صاحب أغنية “la boheme”” على عرش الزمن الجميل الذي استطاع جعل باريس المدينة- المرأة، منتصراً لصوت الحرية وحقوق البشر وعذاباتهم، لتدخل أغنياته السينما أيضاً مع رائد الموجة الفرنسية الجديدة فرانسو تروفو، موقّعاً بقوة على أرقى أفلام هذا التيار الذي ستمتد عدواه إلى “سينمات” العديد من الشعوب.

مع رحيل صاحب “البوهيمية” ينطفئ ليل العشاق القدامى، ليبقى “أزنافور” شاباً في المخيلة، يرقص على المسرح ويغني، يتفقد أعصاب المحبين لخبرٍ مرير كهذا، فهو إن بهذا المقام “عبد الحليم حافظ فرنسا” وهو من عاصر مطربي الزمن الجميل العربي، فكان مسانداً وعراباً للعديد من الحفلات التي أحيتها أم كلثوم والسيدة فيروز على مسرح الأولمبيا في باريس. كان الرجل قريباً من غناء الشعوب، ومعجباً بكل لحن وكلمة تسحر قلوب العشاق وتجعلهم أكثر رقة وحناناً، فهو شاعر يلقي قصائده غناءً، ومغني يؤدي أغنياته شعراً، وهذا لم يكن لولا تلك الحساسية الدفّاقة والعذبة التي ربيت عليها مخيلته وسليقته في الكتابة والغناء.

على الأرجح كان صاحب “تعال يا حبيبي” يعرف أن الشعراء من مقامه لا يخترعون القصائد والأغنيات، بل يكتشفونها. أجل رجلٌ هذه قماشته حرياً بكل هزارات العالم وبجعاته حمل جثمانه إلى مثواه الفردوسي الأخير، حيث الأغاني طعام ملاك الحب الحزين!

في هذا المقال

شاركنا النقاش