[sam_zone id=1]

*نايف كريم|

عاش حمدي قنديل تجربة فريدة في حياته الاعلامية جعلته طريد الأنظمة العربية البائسة، التي لاحقته من محطة تلفزيونية إلى أخرى، أملاً في إسكات صوته أو تطويعه. وهو الذي أبى إلا أن يبقى حرّاً في فكره، ومقاوماً في قلمه، يطلقه رصاصات تجاه احتلالات شتّى غزت الأراضي العربية، من الاحتلال الأسرائيلي لفلسطين وعدوانه على لبنان الى الاحتلال الاميركي للعراق.

كان كلما ضاقت فسحة حريته في قناة عربية، يسعى للانتقال إلى قناة أخرى تقدّم له عروض الحرية في البداية، ثم تعمل على سلبها منه شيئاً فشيئأّ، حتى يضيق ذرعاً ويغادر من جديد.

كان صوته حرّاً وهادراً في القنوات المصرية، حتى ضاق به نظام حسني مبارك وأغلق بوجهه كل القنوات، فاحتضنته قناة “دبي” أواسط العام 2004، وكانت فرصتي للتعرف عليه عن قرب والعمل سويّاً لمرحلة امتدت لخمس سنوات، كانت حافلة باللقاءات والأسفار والأحداث.

كانت المنطقة ما تزال تعيش ذهول سقوط العراق تحت الاحتلال الاميركي، وجاء برنامجه “قلم رصاص” في تلفزيون “دبي” ليشكّل محطة مقاومة أسبوعية تطلق الرصاص على ممارسات الاحتلال الاميركي وتجاوزاته في العراق، ودعماً لكل أشكال المقاومة العربية للاحتلال من العراق إلى فلسطين ولبنان.

واستضاف قنديل في برنامجه معظم رموز وقيادات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وكثير من الأصوات العراقية. وكان عماد برنامجه: مقاومة الاحتلالات الاسرائيلية والاميركية، ومقاومة قمع الحريّات وتسلّط الأنظمة وفسادها في العالم العربي.

لذلك كان برنامجه “قلم رصاص” علامة فارقة ومميزة في تاريخ الإعلام العربي عامة، والاماراتي خاصة. ولكن لم يُكتب لها الاستمرار، لأن الأنظمة التي كانت تطارده لاحقته لتخنق حرّيته أينما حلّ.

كان حمدي قنديل مهنياّ وحرّاً في عمله لأبعد الحدود. كان يحرص على إعداد برنامج بنفسه، ويطالع لأجل ذلك عشرات الصحف العربية يومياً، مختاراً مواضيعه بدقّة متناهية ومولّفاً بينها وبين نصوصه الناقدة باحتراف وحنكة. ومن ثم يختار لكل موضوع ضيفاً مناسباً لدقائق معدودة كانت كافية ليأخذ من ضيفه زبدة الكلام من دون إطالات مملّة وجدالات عقيمة، مسلّطاً الضوء على المتآمرين مع المحتلّين والقامعين للحريات، والمتورّطين في قضايا الفساد والاستهتار بحياة المواطن العربي وكرامته في كل الوطن العربي.

بعد حرب اسرائيل على لبنان في العام 2006، اشتدّ صوت حمدي قنديل ارتفاعاً إلى جانب المقاومين في لبنان وفلسطين، وضد ما بدا من تآمر عربي لتصفية المقاومة بكلّ أشكالها. فبدأت الأصوات المطالبة بخنق صوته تعمل من جديد. أولى الشكاوى الواصلة إلى أبو ظبي عاصمة الإمارات جاءت من رئاسة السلطة الفلسطينية، تطالب بإيقافه أو ضبطه عن مهاجمة السلطة وما تسعى له من ترتيبات ومفاوضات مع الاسرائيليين في ذلك الوقت، فضلاً عن التعرّض للقضايا الفلسطينية الداخلية.

ثم جاءت الشكوى الثانية إلى أبو ظبي من الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أثناء زيارته للإمارات العربية المتحدة في العام 2008، مطالباً بإيقاف حمدي قنديل عن التعرّض لأوضاع مصر الداخلية. وكان أن طلبت إدارة تلفزيون “دبي” بناء على تعليمات عُليا منه الاستمرار في برنامجه، مع الأخذ بعين الاعتبار ان تلفزيون “دبي” ليس قناة المعارضة المصرية.

ثم جاءت الشكوى الثالثة من السعودية على خلفية انتقادات مباشرة أو غير مباشرة وجهها لها قنديل في برنامجه حول قضايا مختلفة. فطلبت إدارة القناة منه عدم التعرّض للسعوديين.

طفح كيل الأستاذ حمدي ولم يعد يتحمّل المزيد من الضغوط، فاتصل بي وقال: “أريد أن آخذ رأيك في موضوع هام”. إلتقينا في المكتب كالعادة قبيل بدء تصوير برنامجه الأسبوعي “قلم رصاص” وقال لي: “لقد كتبت استقالتي وأريد أن آخذ رأيك قبل أن أرسلها لإدارة التلفزيون”.

فقرأت الرسالة التي تتحدّث عن الاستقالة باقتضاب، من دون أن تشير إلى الأسباب، وقلت له: “استاذ حمدي، حتى الآن ما زال لديك هنا منبر تتحدث عبره كلّ أسبوع بما تشاء ضدّ الاحتلال ودعماً للمقاومة في المنطقة. وأنا وانت نعلم أنّ كثيرين يريدون إغلاق هذا المنبر وإسكات هذا الصوت، صوتك. فلماذا تساعدهم في ذلك؟ هم حتى الآن يريدون منك تخفيف حدّة الهجوم على النظام المصري وعدم التطرق للنظام في السعودية. وأنا أرى من أجل استمرار صوتك المقاوم ضدّ الاحتلالين الاميركي والاسرائيلي حتى إشعار آخر، أن تراعي حساسية العلاقة بين الإمارات والسعودية، وأن تكتفي بانتقاد عام للأنظمة العربية من دون تسمية، وهو ما تفعله غالباً.”

وهكذا كان… تراجع الأستاذ حمدي عن تقديم استقالته، لكن الضغوط على برنامجه والسعي لإسكات صوته لم يتراجع، فتوقف البرنامج في العام 2009.

بعد تلفزيون “دبي” انتقل قنديل إلى قناة ليبية تابعة لنظام القذّافي تبث من لندن، مع وعود بأن يكون حرّاً في برنامجه. ولكن عند الحلقة الخامسة التي اتنتقد فيها بشدّة النظام المصري لتوقيفه خليّة تابعة للمقاومة في لبنان، اتصل مبارك بالقذّافي طالباً إيقاف البرنامج، كما أخبرني قنديل بنفسه لاحقاً.

وهكذا أُسكت صوت حمدي قنديل قبل أن يرحل بسنوات، وفضّل هو السكوت التلفزيوني على أن يكون شاهد زور في هذا الزمن العربي الرديء.

*مدير البرامج السياسية في تلفزيون “دبي” بين العامين 2004 و2010 .

(الصورة تجمع الاعلامي نايف كريم مع الاعلامي الراحل حمدي قنديل وزوجته الفنانة نجلاء فتحي في منزلهما في دبي في العام 2008).

في هذا المقال

شاركنا النقاش