ماهر منصور|
لطالما تحدثت عن نص ثان ينبض ضمن ثنايا النص الظاهر لنصوص ممدوح حمادة التلفزيونية. نص يستهدف مشاهداً ذكياً ورقيباً ساذجاً… وفي مسلسله الأخير “الواق واق” يبدو ذلك النص الثاني أكثر وضوحاً، عما كان عليه في نصوصه السابقة. ففيه يزاوج حمادة ما بين الواقعية والرمزية، الأمر الذي يجعل معالجته الدرامية لحكاية المسلسل الجديد مختلفة عما أنجزه من قبل في “ضيعة ضايعة” وفي “الخربة”. ففيه لا يختبىء “النص المرافق” في حنايا النص الظاهر وفي ظلال ناسه البسطاء، ليحقق أغراضاً فنية وبلاغية ترتبط على نحو وثيق بسياق حكاية العمل وحواراته، كما الحال في المسلسلين السابقين، وإنما يتقدم النص المرافق أحياناً ليكون هو الظاهر أيضاً حيث يصير الرمز في عدد من القضايا المطروحة في المسلسل ترفاً لا معنى له، لذلك يؤثر ممدوح حمادة تقديمها بصورة واضحة حتى لو بدت مباشرة.
لكن هذا النص المرافق سرعان ما يعود ليتوارى في مرات أخرى خلف النص الظاهر، ليأخذ المعنى نحو سياق أعمق وأشد تأثيراً، ويضع المشاهد تصوراته الخاصة عنها، اعتماداً على مخيلة تحليلية عميقة، تستند إلى مرجعياته الحياتية ومعارفه الثقافية. فنجد ممدوح حمادة في “الواق واق”، على سبيل المثال، يُنزل السروال عن الجنرال “عرفان الرقعي”، في دلالة بلاغية عالية، ولكنه لا يريد أن يكشف عن سيقانه بقدر ما يريد أن يعري مؤسسة من الغطرسة والوحشية يغلفها النفاق. ولمواصلة تعرية هذه المؤسسة، يصل رجل الأمن “صفا” والسجين “وديع” مقيدين إلى جزيرة، حيث يدعي كل منهما أنه رجل الأمن وأن الآخر هو المجرم. وكما يستحيل فك قيد الاثنين، يستحيل معرفة هوية كل منهما.
ولعل الدلالة الأكثر عمقاً وربما الأشد وجعاً هي علم “درة الزبد” الذي يحاك من قطع قماشية تم جمعها من ملابس أهل الجزيرة، ليقف الجميع تالياً بملابس ممزقة يحييون العلم، الذي لولا ما اقتطع من ملابسهم ما كان وارتفع.
في “الواق واق” الجميع مدان، سلطة وشعباً. فهولاء الباحثون عن حياة أكثر جمالًا وعدلاً. يبدون أسرى ما اكتسبوه في المجتمعات التي خرجوا منها، وهم في طريقهم لبناء مجتمعهم (الأفلاطوني)، فيعيدون التجارب ذاتها التي اختبروها في بلادهم وعاينوا نتائجها بأنفسهم، وما من أحد منهم يطرح بديلاً عن كل التجارب، وإنما يريدون إعادة إنتاجها وفق ما يعتقدون. وكأن “الواق واق” يعلن بذلك هجومه على كل المؤسسة المجتمعية بكل ما فيها من غطرسة ووحشية واستبداد وجشع وحماقة وبلاهة ونفاق ووهم وخوف.
ينتمي مسلسل “الواق واق” إلى “الكوميديا السوداء”، فيجترح المفارقة الساخرة من وجود عدد من الشخصيات على الجزيرة المجهولة. يجمعهم قدر النجاة من غرق السفينة والرغبة تالياً بإقامة المجتمع الذي يحلمون به والبريء من أوجاعهم وهواجسهم، الأقرب إلى أمنياتهم التي حالت بلدانهم دون تنفيذها. وبمقدار ما يجمعهم قدر النجاة بقدر ما سيفرقهم، إذ سيكون لكل شخصية منهم هدف وهاجس بعينه، وخوف يسكنها وعقد نقص أيضاً تسعى للخلاص منها. ومن تناقض تلك الهواجس والقناعات، ومن الرغبة بفرضها على الآخرين وتعميم تجربتها، تولد البسمة من الألم أو هجائه، لذلك لا ضحكة مجللة في “الواق واق” إلا في الحالات التي يختبىء فيها “النص المرافق” في حنايا النص الظاهر ، حيث تتقدم الحكاية الدرامية بشكلها الذي اعتدناه في أعمال ممدوح حمادة السابقة.
يمر الصراع الدرامي في “الواق واق” بمرحلتين اثنيتن: الأولى تمتد حتى الحلقة الخامسة “نهاية الوهم الأمريكي” وفيها يكون الصراع ساكناً، إذا تمتد خطوط الحكاية من دون تقاطع بينها أو صراع إرادات، فتقتصر الحبكات على التعرف على الشخصيات وتبيان رغباتها وأمنياتها.. فيما الجميع ينتظر الخلاص من هذه الجزيرة- محطتهم المؤقتة، وبالتالي لا نشهد نزوعاً عند أحد لخوض صراع لفرض رغباته.
وفي هذه المرحلة نشهد تأسيساً لأحداث المسلسل، وكشفاً لقضيته الرئيسية ومواقف الشخصيات فيها، وصولا إلى اكتمال ملامح الحبكة الرئيسية التي ستمضي بموجبها أحداث المسلسل. إلا أن مساحة التأسيس هذه، تبدو طويلة نسبياً على دراما متصلة منفصلة مثل “الواق واق” تسرب معها شيئا من الملل إلى قلب المشاهد، رغم أنها مسافة زمنية إلزامية فرضتها ضرورة التعرف على 17 شخصية منذ بداية العمل….ألم يكن بالإمكان تجاوزها…؟!
وجود تلك الشخصيات (معظمها وتالياً كلها) في مكان واحد، فرض أيضاً قلة في الفعل لصالح الحوار الذي صار أسلوب التعبير الأساسي في هذه الحلقات، الأمر الذي ساهم في اطالة المشاهد التأسيسية، والحاجة في المقابل لمعالجة إخراجية خاصة تضفي على المشاهد حيوية (وهذا ما سنناقشه في مقالة قادمة عن الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلي في المسلسل).
مرحلة الصراع الثانية، التي يمر بها المسلسل هي مرحلة الصراع الصاعد. تبدأ مع ميل الناجين من الغرق إلى الاستقرار على الجزيرة والبدء ببناء مجتمعهم وفق تصورهم الافلاطوني الخاص، أي كل كما يرى مصلحته بشكل هذا المجتمع، ومن تناقض هذه المصالح، ومن صراع سكان الجزيرة الجدد في البحث عن أسباب الاستمرار وتجاوز صعوباته. وفي هذه المرحلة تتحرك حبكة الاحداث بشكل تصاعدي من اول الحلقة حتى آخرها، فتشتد دينامكية العلامة في المشاهد الدرامية، بين حلقة وأخرى، مع عودة الفعل ليأخذ مساحته قياساً الى الحوار وتنوع الحكايات وعوالمها وحس المرح فيها، وبالتالي قوة جاذبيتها.
بالعموم يحتاج مسلسل “الواق واق” إلى مشاهدة هادئة، بريئة من ثقل مقارنته بأعمال الثنائي (ممدوح حمادة والليث حجو) في “الخربة” و”ضيعة ضايعة”.. ربما كان هذان العملان أكثر ذكاء في بساطة حكايتهما وبعمق طرحهما…ولكن لحكاية “الواق واق” طبيعتها، ولمقولاتها أحكامها أيضاً، وهي تبدو بميلها للمزج بين الواقعية والرمزية، تنشد هجاء حالنا أولاً قبل الاضحاك.
شاركنا النقاش