[sam_zone id=1]

ماهر منصور|

يستثمر المخرج عمرو علي في فيلمه القصير “الغيبوبة” كل ما في الصورة السينمائية من إمكانيات تعبيرية، المرئية منها والذهنية، ليرصد دائرة الانتظار التي تثقل يوميات شخصية فيلمه المحورية، ويتتبع صراعها بين الرغبة بمغادرة المكان نحو العالم الآخر- الخلاص، وبين التزامها بأبٍ يغرق في غيبوبته، والعناية به تستنزف روح المكان وصاحبه.

يوظف المخرج علي حجم لقطات كاميراته، ليعبر عن التغيرات التي تطرأ على حياة شخصيته المحورية، وها هو يجعل من ثلاث لقطات قريبة، أشبه بثلاث افتتاحيات لثلاثة فصول، تتقاسم أحداث فيلمه ومعاناة بطله، فيفتتح الفيلم بلقطة قريبة جدًا (Extreme Close-up shot) تنقلنا مباشرة إلى عالم الشخصية المحورية التي تترقب شيئاً ما في العالم الخارجي الذي تطل عليه عبر نافذة غرفتها. وتالياً يوظف لقطتين قريبتين (Close-up shot) تتخللان مجريات الأحداث، لتبقيانا بقرب الشخصية التي ما فتئت تنتظر، وتؤسسان لنقلة في الأحداث بعدهما، وصولاً إلى لقطة الختام التي تقرر فيها الشخصية الخروج من دائرة الانتظار والكف عنه.

لا ملامح للمكان خارج الشقة التي يعيش فيها البطل وأبوه، إلا تلك التي يحددها الصوت الذي يحل مكان الصورة الغائبة، ويعكس المخرج علي تأثيرها الكلي على وجه الممثل في لقطاته القريبة الثلاثة، على نحو رئيسي.
ثمة في الخارج أصوات ضجيج نتيجة حركة مرورية تبدو كثيفة أحياناً، يتخللها ويطغى عليها أصوات قصف، وأبواق سيارات إسعاف، وصوت تاجر يشتري الأشياء القديمة…وتلك الأصوات بمجملها لا تحدد ملامح المكان الخارجي وحسب، وإنما هي تحدد زمن الحكاية أيضاً.. فهو زمن الحرب، وهو الزمن الذي تؤكده صورة الأب ببزته العسكرية، الجاثمة فوق الجدار القاتم ، وبذلك يراوح فيلم عمرو علي بين التجسيد الصريح لفعل الانتظار المكبل بغيبوبة الأب وسط المكان القاتم، والايحاء الرمزي بأسباب الرغبة بالخروج منه.

وكما يحدد الصوت زمن الحكاية، يسهم أيضاً في الإيحاء بمرور الزمن فيها، وذلك عبر التناقص التدريجي لأثاث المنزل على إيقاع نداء تاجر الأشياء القديمة، وفي ذلك التجسيد الصريح، ثمة إيحاء رمزي أيضاً للدلالة على نفاذ صبر بطل الفيلم من أسر المكان ورتابة الحياة والملل الذي راح يطغى عليه، ولاسيما مع تناقص كل ما يشاغل انتظاره.
وسرعان ما يكسر ظهور حشرة في الشقة الفارغة رتابة حياة الشاب فيها، ويحرك الماء الراكد في روحه فيبدأ بملاحقتها لقتلها، وربما لرغبة منه بمشاغلة انتظاره، والتحرر من رتابة تفاصيل حياتية يومية. وتلك الرغبة عبّر عنها المخرج علي عبر مجموعة من اللقطات التتبعية لبطله، بقيت في معظمها على مسافة قريبة جداً من وجهه، أي البطل، لتحفظ حرارة المشاعر فيه، وصولاً إلى الخروج بنسق تشكيلي يفسر الحيوية الطارئة على شخصيته المحورية في تلك اللحظة، ويغني التكوين الجمالي للصورة السينمائية في رصدها للأحداث.

تلك الحيوية الطارئة لم تكن لتأثر على سرعة الفيلم، فالحركة في اللقطات جميعها ستظل بطيئة، بما فيها اللقطات المتعلقة بالحيوية الطارئة على البطل، فهذه الأخيرة ليست سوى جزء من حياته المكبلة بالانتظار ، وما من انتظار في حيواتنا لا يثقله بطء مرور الوقت.

تحريك زوايا النظر وتنويعها ومسح التفاصيل، وقتامة الديكور.. جميعها ستسهم أيضاً في تعزيز الصورة الذهنية والبصرية للمشاهد عن طبيعة المأزق الذي تعيشه الشخصية المحورية في “الغيبوبة”، ومعها ستكتمل فصول الحكاية ومقولتها على النحو التالي:

ربما يكون خلاص المرء خارج المكان. لكن المعنى الحقيقي له سيبقى داخله، حتى لو كان الأب/ الوطن في غيبوبة، إلا أن البقاء بقربه سيحفظ ملامحنا، ولن يضعنا في مأزق البحث عن الهوية، ذلك هو اليقين الذي أدركه الشاب، حين عزف عن مغادرة المكان، ورمى حقيبته ليتمدد إلى جانب الأب الغارق في غيبوته، في غلفة من وجع الانتظار.

“الغيبوبة” هنا رواية من زمن الحرب، ولكنها تمتلك حرارة المعنى، ما يجعلها حكاية الباحثين عن خلاصهم خارج المكان الذي ينتمون إليه.

“الغيبوبة” فيلم من تأليف وإخراج عمروعلي، وبطولة يحيى أبو دان وفاروق الشامي وأحمد الرفاعي.

في هذا المقال

شاركنا النقاش