[sam_zone id=1]

ماهر منصور|

تستند مرجعيات الرقابة التلفزيونية في ممارسة عملها إلى تعليمات عامة واجتهادات شخصية غالباً ما تبدو أسيرة قناعاتها المعلبة، على نحو تبدو مفارقة لواقع أنها تتعامل مع نصوص إبداعية تنطوي بما يصطلح على تسميته بـ”النص المرافق”، ذلك النص الذي يختبأ في حنايا النص الظاهر ويطوقه، ويحقق أغراضاً فنية وبلاغية ترتبط على نحو وثيق بسياق حكاية العمل وحواراته.

لا يعلن النص المصاحب عن نفسه صراحة، وإنما يأتي على شكل رموز إشارية، يكون و قد لا يكون لها معنى في السياق الذي وردت فيه ضمن الحوار الدرامي، ولكنها في الحالتين تحيلنا إلى معنى ثان غير مصرح به. فالدراما لها لغة تتجاوز حدود الكلمات، وإلى جانب التلفظ الظاهري، هناك تلفظ تخييلي وتلفظ مشهدي، يخلص إليهما المشاهد وفق سياق يستند إلى مرجعيات تتعلق بثقافته وتجاربه الحياتية وظرفه المحيط.

في مسرحية “كاسك يا وطن” (محمد الماغوط، دريد لحام)، على سبيل المثال، يحلم غوار المواطن البسيط بأن يرزقه الله طفلة يسميها “أحلام”. وعلى قدومها يبني الرجل أماله وفيها تتلخص كل أمانيه، لكن الطفلة سرعان ما تموت نتيحة إهمال طبي..ذلك هو الجانب الذي يتعلق بالتلفظ الظاهري من دراما “كاسك يا وطن”. لكن هذا التلفظ يتجاوز ظاهره، استناداً إلى رمزية الاسم أحلام، نحو أبعاد تلميحية تخيلية، واحدة من معانيها لا كلها: “هذا الوطن يقتل أحلام أبنائه البسطاء”.

الجانب المتعلق بالتلفظ المشهدي يظهر، على سبيل المثال، في نهاية مسلسل “سنعود بعد قليل” (رافي وهبي، الليث حجو) حيث يجتمع الأخوة أمام غرفة العناية المركزة التي يرقد فيها الأب (الصورة اعلاه)، وهم يتخاصمون ويتبادلون الاتهامات حول أي منهم كان السبب في إهمال صحة الأب. ولكنهم سرعان ما ينفضون من حول هذا الأخير الواحد تلو الآخر، ليلاحقوا قضايا تتعلق بمصالحهم الشخصية. هنا لا يمكن للمشاهد السوري أمام هذا المشهد إلا أن يتخيل مشهداً موازياً للوطن الذي نتخاصم اليوم على حبه، وننفض من حوله ونتركه يحتضر، لنلهث بعيداً عنه خلف خلاصنا الفردي.

أيضاً في نهاية مسلسل “الحقائب- ضبو الشناتي” (ممدوح حمادة- الليث حجو) يغرق بيت الأب خليل بالماء، وتطفو فوقها صور العائلة التي ركبت البحر هرباً من لهيب الحرب، وبينما يأتي التلفظ الظاهري ليخبرنا عبر المذياع أن مركباً للمهاجرين غرق، تحيلنا صور العائلة الغارقة بماء البيت، إلى صورة تخييلية مصاحبة نرى فيها بأن عائلة خليل هي من كانت على متن ذلك المركب وغرقت معه، ومع انشغال أهل الحارة عن خبر غرق المركب، ندرك أن الوطن كله من يغرق وليس عائلة خليل وحدها.

القراءات التخييلية أو المشهدية السابقة، تبنى بناء على مرجعياتنا الحياتية ومعارفنا الثقافية وتجاربنا اليومية الخاصة. ولو أن مشاهداً ثانياً، وليكن في بلد أوروبي على سبيل المثال، تابع تلك المشاهد، لوضع تصوراته الخاصة عنها بناء على مرجعياته الحياتية ومعارفه الثقافية. وعلى هذا النحو لا تبدو المقولة الشهيرة “لكل مقام مقال” دقيقة في الدراما، والمعنى الأدق لها يصير بقولنا إن “لكل مقام معنى للمقال”.

ولكن هل يدرك الرقيب التلفزيوني ذلك، وهل يعرف أن للدراما لغة تتجاوز حدود الكلمات..؟!

غالباً نعم يدرك ذلك، والمشكلة تبدأ حين يأخذ المعنى نحو سياق يخصه وحده، مستنداً إلى خلفيته الثقافية والاجتماعية ومفاهيمه للممنوع والعيب والمصلحة العامة ومصلحة الوطن، بل بوهم أنه حارس الأخلاق والقيم والوطن.

لو قيس الأمر بتجربتنا مع الرقيب التلفزيوني السوري لسنوات طويلة، نخلص إلى أن هذا الأخير يتعامل مع النص التلفزيوني الدرامي بقوالب فهم معلبة لروح الإبداع. لذلك سيظل حالنا في معظم الأحيان مع مقصه، حذفاً أو تعديلاً، حال المثل الشائع “شر البلية ما يضحك”…ففي كثير من اجتهاداته ما يبعث على الضحك قبل الوجع.

 

في هذا المقال

شاركنا النقاش