[sam_zone id=1]

فاتن قبيسي |

تعددت الأفلام التي تناولت قضية المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وكل منها يركز على أساليب التعذيب الوحشية داخل الزنازين. بتنا نحفظها من خلال الأفلام القصيرة والروائية، وان كان يصعب علينا هضمها!

كان على المخرج رائد أنضوني ان يجترح اسلوبا جديدا يقدم فيه القضية من منظور مختلف. لعله كان يبحث عن واقعية ناطقة، ومواقف حية يسجل فيها وجعاً نابضاً، فاختار توليفة تشبك التمثيل بالواقع.

“اصطياد الاشباح” فيلم يجمع بين الوثائقي والروائي، بدأ عرضه أمس في سينما “متروبوليس أمبير صوفيل” في بيروت. جرعة الواقعية فيه عالية جدا. والمعالجة فيه جديدة، وفكرته استثنائية. وتقوم على الاستجابة لاعلان عن وظائف شاغرة لسجناء سابقين. وظائف تتمثل بانجاز الفيلم. ذلك لانه ليس افضل ممن يعبّر عن الوجع الا صاحبه. بدءا من المخرج الفلسطيني نفسه، الذي كان اعتقل بدوره في سجن “المسكوبية”.

وهكذا تحوّل هؤلاء المعتقلين السابقين الى ممثلين. يروون حكاياتهم اما من خلال تجسيد دور يعكس ما عانوه، واما من خلال شهادات يدلون بها بعد تصوير لقطات معينة، تنكىء ذاكرتهم وتحرضهم على البوح. ولعله من نقاط قوة الفيلم ان السجناء يختصرون عدة ادوار في آن، فهم يشاركون في وضع السيناريو والتمثيل وحتى الإخراج، من خلال المساعدة في رسم صورة نهائية للمشهد وفقا لتجربتهم المعاشة. وهم بين كل ذلك، يتألمون، يبكون احيانا ويستعيدون آلامهم..بتأثر بالغ.

.. انها اشبه بعملية التطهير من الوجع، والتصالح مع الذاكرة المنكوبة. ارادها المخرج علاجا نفسيا للسجناء السابقين، وهو من ضمنهم، علما انه شارك شخصيا في الفيلم، باعتباره جزءا من الحالة التي يعالجها.

الفيلم يعتمد على تركيبة لافتة، تعكس مراحل تصوير الفيلم، بدءا من لحظة اجراء لقاءات تعارف مع السجناء السابقين من قبل المخرج، وتسجيل اسمائهم. وينطلق التصوير في مساحة فارغة، تبدأ فيها ورشة بناء الزنازين ومواضع المحققين الإسرائيليين، طبقا للصورة الجماعية في مخيلة المشاركين في الفيلم. فكانت الأحداث تتوزع على مدى الشريط في آن، بين عملية البناء وتركيب الديكور من جهة، وكيفية تصوير مشاهد التعذيب، والخروج منها الى البوح المباشر من جهة ثانية. كما تضمن الفيلم تعليقات عفوية على بعض اللقطات من قبل الممثلين، وسرد لأحوالهم الشخصية او العائلية في فترة ما بعد الإعتقال. كل ذلك جاء بقالب يغيب عنه الافتعال تماما.

وعليه، فان كواليس تصوير الفيلم تحولت هنا الى فيلم بحد ذاته. ودمج ما يكون بالعادة خلف الكاميرا مع ما تلتقطه عدستها، جعل السيناريو بلا شك اكثر صعوبة، وكذلك التصوير وعمليات المونتاج، التي اعتمدت على التشابك بين اجزاء فيلم، لا يركن الى قصة احداثها متسلسلة وفق سيناريو تدريجي.

ولكن رغم هذه الصعوبة والجهد الذي تتطلبه، الا انه ما يؤخذ على الشريط هو عدم استناده الى سياق تصاعدي، ما خفّض قليلا من منسوب التشويق. فباستثناء عملية بناء الزنازين التدريجي، ودخول السجناء اليها لاحقا، كانت بعض المشاهد تسير على خط واحد، حيث كان بالإمكان ربما استبدال مشهد بآخر، دون ان تتأثر الهيكلية العامة للفيلم. ما أوصله بالتالي الى نهاية عادية، بحيث انه كان يمكن ان يختتم قبل دقائق مثلا، من دون ان تتأثر ايضا خاتمته!

.. اي ان الفيلم كان يحتاج لحدث ما ( ان لم يكن اكثر) أو لموقف أو لقطة غير متوقعة تشحنه بالاثارة، وترفع خطه البياني.

نقول ذلك، وان كان الفيلم أضاء احيانا على وسائل تعذيب جديدة في المعتقلات الإسرائيلية، غير الصعق الكهربائي والضرب والركل .. وقد اعتمد باسلوب فني جذاب على رسومات متحركة باللونين الأبيض والاسود، لمعتقل وُضع الكيس في رأسه، او حُشر في زنزانة. كما أضاء بشكل موفَّق على مواهب بعض السجناء، المتمثّلة بالرسم والشعر كأدوات للتنفيس داخل المعتقل.

الفيلم يتصدى لجرح مفتوح، لعل ابرز تجلياته هو اعادة اعتقال احد السجناء المشاركين فيه بعد تصويره! انهم 750 الف سجين في المعتقلات الاسرائيلية منذ العام 1976، بحسب ما ذكر الفيلم في خاتمته. شريحة كبيرة لا بد ان تُنقل قضيتها الى العالم. وهو ما فعله الفيلم الذي حصل مؤخرا على جائزتي افضل وثائقي في “مهرجان برلين الدولي”، و”مهرجان وهران الدولي”.

” اصطياد الاشباح” الذي تغلب عليه الاضاءة الباهتة تماشيا مع المضمون، يفضي الى شعور بالكآبة. ولكنها كآبة من النوع المحفٌز على ضرورة اعادة البوصلة في الوطن العربي باتجاه القضية الفلسطينية مجددا!

 

 

في هذا المقال

شاركنا النقاش