دمشق: آمنة ملحم|
لم تكن دربه معبدة، بل كانت مرصوفة بالعذاب والتضحيات وقسوة الزنزانة، تلك العذابات استطاعت أن تجعل منه بطلاً لمرات عدة خلال مسيرته، ولكنها المرة الأولى التي يتجسد فيها كبطل على شاشة السينما .
“المطران هيلاريون كبوجي” الذي تقمص ملامحه الفنان رشيد عساف، فكان حارساً أميناً على تلك البطولات، إذ نر مع “حارس القدس” رشيداً بل شهدنا له بأنه كبوجي المطران الذي حمل القدس بين ضلوعه وبكل جوارحه، وأطلق العنان لصرخات ومواقف وطنية لم تهدأ وأنفاس لم تحبس، بل ظلت معبقة بهوى القدس لآخر المشوار، وبقي حبه للشام وحلب مخلداً في سيرته في حياته وحتى بعد مماته.
فيلم “المطران” الذي ألفه حسن م يوسف، وأخرجه باسل الخطيب قُدم أخيراً بعرض خاص في دار الأوبرا في دمشق، راصداً فترة اعتقال المطران كبوجي في سجون الاحتلال الإسرائيلي وما تعرض له على مدار أربعة أعوام من أبشع أنواع التعذيب والتضييق، التي لم تزحزحه عن ثبات موقفه الوطني والنضالي وتمسكه بالقدس وبكلمة الحق التي اعتنقها وضحى كثيراً في سبيلها.
عرج الفيلم سريعاً على مراحل الطفولة والشباب للمطران المولود في حلب عام 1922 ، والذي أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965 حتى اعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي عام 1974 بتهمة تهريب السلاح للمقاومة الفلسطينية. وهنا ركز الفيلم على هذه المرحلة التي حملت كل معاني التضحية منه، مقابل اللاإنسانية والظلم الكبيرين الذي تعرض لهما. وكان بطل هذه المرحلة على الشاشة الفنان رشيد عساف فجسد الدور بكل صدق في الأداء الذي وصل لدرجة كبيرة من الإتقان والإبداع، مسخراً قدراته وأدواته الفنية لخدمة هذه الشخصية، فبرع في استعمال كل ملامحه ولغة جسده ليكون كبوجي الرحيم بمن حوله، والصارم جداً في مواقفه، فاستطاع أسر الأنظار في كل مشهد من مشاهد الفيلم التي تنوعت معه وتقلبت ما بين الفرح وزرع الضحكة والحزن والألم.
كما جاء حضور الفنان باسل حيدر بدور مدير السجن متوهجاً، فهو الفنان الذي طالما برع بأدوار القسوة والشر، ورغم ذلك كان حضوره طازجاً مقنعاً مختلفاً، مع حضور جديد للفنانة الشابة ليا مباردي بدور “مريم” المساندة للمطران، البعيدة عن أية مظاهر أو استعراضات وبجدية عالية في الظهور، حالها كحال الشابة ترف التقي أيضاً.
وتميز الفنان يحيى بيازي بدور السجين الذي حضر بمثابة الحارس أيضاً على حياة المطران في السجن، وكان لهدوئه وقع مختلف عن كافة أدواره السابقة.
الشخصيات التي حضرت في الفيلم موثقة في مسيرة المطران كبوجي، وجاءت كذلك على الشاشة من لحم ودم ، وعزز حضورها الموسيقى التصويرية المؤثرة المنسجمة مع ايقاع المشاهد هبوطا وصعودا، والتي ألفها الموسيقار سمير كويفاني، ليبقى صدى صوت الراحلة ميادة بسيليس حاضراً بخصوصية عالية بالأغاني الوطنية والترانيم، وخير ختام للفيلم الذي أهدي لروحها، فهي التي حضرت بكل تفاصيله إلا أنها غابت عن افتتاحه، فكانت خير ختام له.
الفيلم عموماً لم يستعرض سيرة كاملة للمطران، وهذا في الحقيقة ما لا يمكن تحصيله بشريط سينمائي بأقل من ساعتين، فجاء سريعاً مربكاً في بدايته بالتقليب بين مراحل زمنية متلاحقة مع مشاهد خاطفة لكل مرحلة، إلا أنه استطاع أن يحدث أعلى درجات التأثير الوجداني وحس الوطنية مع حضور المطران في القدس والتعريج على أحداث مفصلية عام 1967، مع التأكيد على وحدة الأديان في مواجهة أي احتلال أو اغتصاب للأرض بمشاهد حملت رمزية كبيرة ورسالة قوية بوقوف المطران إلى جانب “الشيخ” للصلاة على الشهداء، وصولاً لمرحلة السجن التي جعلت من المكان بتفاصيله بطلاً أيضاً. واستمرت الرحلة إلى أن تدّخل الفاتيكان لإطلاق سراح المطران، ثم أُبعد إثر ذلك إلى روما، وقضى بقية حياته فيها، دون أن يتخلى عن دوره الوطني والديني المقاوم للاحتلال والداعم للقضية الفلسطينية ولوطنه سوريا، وذلك حتى رحيله عام 2017.
شاركنا النقاش